رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرائدة.. نوال السعداوي اكتشفت أن الأسر تظلم النساء وهي في عمر العاشرة.. وحاربت الختان منذ 50 عاما

 نوال السعداوي
نوال السعداوي

لا تمر حملة الــ١٦ يومًا لمناهضة العنف ضد النساء كل عام دون تذكر الكاتبة الراحلة نوال السعداوى، ومعاركها ومؤلفاتها، فهذه السيدة التى جرى تلقيبها بـ«المقاتلة» تعد المرجع الأساسى فى الحركة النسوية العربية، وحياتها الملهمة لا تقل أهمية عن مؤلفاتها التى ترجمت لأكثر من ٤٠ لغة حول العالم. 

حياة حافلة حقًا بدءًا بتأملاتها كطفلة فى شكل العلاقات الأسرية داخل عائلتها، مرورًا بتحليلاتها كطبيبة شابة، وانتهاءً بمناظراتها الجريئة على الهواء مع أعتى عقول الإسلاميين المتشددين.

 

رفض مبكر لتمييز الذكر عن الأنثى

فى «مذكرات طفلة اسمها سعاد» دوّنت نوال السعداوى جانبًا أساسيًا من طفولتها التى عانت خلالها تمييزًا جندريًا كونها «بنتًا»، وتذكرت الحوار الذى دار بينها وبين عمتها، وهى معتزة بكونها طفلة «شاطرة وناجحة» فى المدرسة: «يا عمتى البنت أحسن من الولد؟».

كانت الطفلة نوال تنتظر إجابة محفزة وعادلة، مثل: «البنت زى الولد لا فارق»، لكنها صُدمت بأن عمتها ترد على الفور: «لا يا حبيبتى، الولد أحسن من عشر بنات، البنت تجلب الهموم، لكن الولد يجلب السعد لأهله، أنا عندى ثلاثة أولاد وخمس بنات (كبة) مثل الهم على القلب».

اكتشفت نوال لأول مرة وهى طفلة فى المرحلة الابتدائية أن المرأة أحيانًا ما تكون هى عدوة نفسها، خاصة إذا استسلمت لأفكار المجتمع التى يقمعها بها، وإذا أسهمت فى نقل هذه الأفكار لأبنائها خلال التربية، وكان هذا الاعتراف الأول بأن المعركة ليست مع رجال المجتمع الذين يحاصرون النساء بأفكار ذكورية فقط، بل مع النساء حاملات ذات الوباء الفكرى أيضًا.

تقول نوال فى مذكراتها إن عمتها صُدمت حينما جاء رد الطفلة: «لكنك يا عمتى بنت، فهل تكرهين نفسك أيضًا؟».

اقتحام مجالات الرجال

رغم أن أسرة نوال السعداوى كانت تنتمى للطبقة المتوسطة، وتمتلك قدرًا من الوعى تجاه قضية تعليم البنات والاعتناء بهن فكريًا وإنسانيًا، كانت هذه العائلة تتأثر بالتأكيد بإفرازات المجتمع السلبية. تروى نوال السعداوى فى مذكراتها أن والديها كانا يشجعاها على الدراسة، لكن فى نفس الوقت يمنعاها من اللعب فى الشارع مع الأولاد، حتى لو كان من بين هؤلاء الأولاد شقيقها محمد، وتذكرت أنها دائمًا ما كانت تكسر هذه القواعد وهى طفلة: «لم أكن أفكر فى كسر القواعد أو الضوابط، وإنما فى قول الحقيقة».

صرخة ضد جرائم الختان

«أحسست وأنا مكتومة الأنفاس ومغلقة العينين أن ذلك الشىء يقترب منى، لا يقترب من عنقى، وإنما يقترب من بطنى، من مكان بين فخذى، وأدركت فى تلك اللحظة أن فخذىّ قد فتحتا عن آخرهما، وأن كل فخذ قد شدت بعيدًا عن الأخرى بأصابع حديدية لا تلين، وكأنما السكين أو الموسى الحاد يسقط على عنقى بالضبط، أحسست بالشىء المعدنى يسقط بحدة وقوة، ويقطع من بين فخذىّ جزءًا من جسدى، صرخت من الألم رغم الكمامة فوق فمى». هكذا وقعت نوال السعداوى ضحية لجريمة الختان فى عمر السادسة، ووصفت مشاعرها المؤلمة التى لم تستطع معالجتها- وهى الطبيبة النفسية- فى كتابها «الوجه العارى للمرأة العربية».

ووثّقت كيف كانت تصرخ وهى منكسة الرأس على أرضية الحمام، وكيف كانت والدتها حاضرة وشاركت فى الجريمة ولم تنقذها، ووثّقت أيضًا جرائم كانت شاهدةً عليها «ختان واعتداء جنسى» خلال عملها كطبيبة فى إحدى القرى المصرية.

ليلة الختان المرعبة كانت نقطة تحول فى حياة نوال السعداوى للأبد، وربما هى الليلة التى صنعت منها المفكّرة والمقاتلة التى نعرفها اليوم، فقد اختارت أن تعمل على مدار حياتها ضد جريمة ختان الإناث، واصفة إياه بأنها أداة لقمع النساء، وقد جرى تجريم عادة ختان الإناث فى مصر عام ٢٠٠٨، بينما أدانت السعداوى استمرار انتشارها حتى جرى إطلاق عقوبات مغلظة فى نفس عام وفاتها.

فضح الممارسات القمعية ضد الريفيات

فقدت نوال السعداوى وظيفتها فى وزارة الصحة المصرية عام ١٩٧٢ بسبب كتابها «المرأة والجنس»، الذى هاجمت فيه تشويه الأعضاء الجنسية للمرأة، المعروف باسم «الختان»، وقمع النساء، كما أُغلقت فى عام ١٩٧٣ مجلة «الصحة» التى أسستها قبل ذلك بسنوات، غير أنها لم تتوقف عن التعبير عن آرائها. 

وخلال عملها طبيبة لاحظت المشاكل النفسية والجسدية للمرأة الناتجة عن الممارسة القمعية للمجتمع والقمع الأسرى.. ففى أثناء عملها طبيبة فى مكان ميلادها بكفر طحلة، لاحظت الصعوبات والتمييز الذى تواجهه المرأة الريفية، ونتيجة لمحاولتها الدفاع عن إحدى مريضاتها من التعرض للعنف الأسرى، نُقلت مرة أخرى إلى القاهرة.

لم تكن المعركة سهلة.. فقد تلقت نوال السعداوى تهديدات بالقتل من جانب أصوليين، كما رُفعت ضدها دعاوى قضائية، لتضطر فى نهاية المطاف إلى العيش فى منفى بالولايات المتحدة، وهناك واصلت هجماتها ضد الدين والاستعمار، وما وصفته بالنفاق الغربى. 

وحين سألتها مذيعة «بى بى سى»، زينب بدوى، فى حوار أجرته عام ٢٠١٨، عن إمكانية تخفيفها حدة انتقاداتها، أجابت قائلة: «كلا، يجب أن أكون أكثر صراحة، يجب أن أكون أكثر عدوانية لأن العالم بات أكثر عدوانية، ونحن بحاجة إلى أن يتحدث الناس بصوت عالٍ ضد الظلم»، وأضافت: «أتحدث بصوت عالٍ لأننى غاضبة».

قضايا حسبة وتهديد بالقتل

نتيجة لآرائها ومؤلفاتها رُفعت العديد من القضايا ضدها من الإسلاميين، مثل قضية الحسبة للتفريق بينها وزوجها، ووُجهت لها تهمة «ازدراء الأديان»، كما وُضع اسمها على ما وُصفت بـ«قائمة الموت للجماعات الإسلامية» حيث هُددت بالقتل.

وأعلنت «السعداوى» أكثر من مرة عن رفضها الحجاب، باعتباره «رمزًا سياسيًا خطيرًا لعبودية المرأة»، وبنفس المنطق لم ترتضِ أيضًا «تعرية الجسد»، باعتبار «التغطية أو التعرية» هى عملية تسليع لجسد المرأة.

وبجانب ما أثارته من غضب، نالت «السعداوى» اعترافًا عالميًا واسعًا، وتُرجمت أعمالها إلى أكثر من ٤٠ لغة، ونالت درجات شرفية عدة من جامعات مختلفة حول العالم.. وفى عام ٢٠٢٠ أدرجتها مجلة «التايمز» الأمريكية ضمن قائمة أكثر ١٠٠ امرأة تأثيرًا، وخصصت غلافها الخارجى لصورتها.

«السعداوى» قدمت أطروحات جذرية فى قضية المرأة، بدءًا من كتاب «الأنثى هى الأصل»، مرورًا بـ«المرأة والجنس»، وصولًا لمسرحية «الإله يقدم استقالته فى مؤتمر القمة»، لكن رغم مثابرتها كانت القبضة السلفية تحاول أيضًا سلب كل المكتسبات التى تصل لها النساء.

ظهور السلفية فى مصر ثم فى المنطقة العربية أدى إلى زيادة حدة الصراع بينها وبين نوال السعداوى، ومع اختفاء النمط الوسطى، تحت الضغوط الاقتصادية، وتآكل الطبقة الوسطى لصالح الطبقتين الغنية والفقيرة.. فى عام ١٩٧٢ نشرت كتابًا بعنوان «المرأة والجنس»، مواجهة بذلك جميع أنواع العنف التى تتعرض لها المرأة كالختان والطقوس التى تقام فى المجتمع الريفى للتأكد من عذرية الفتاة، وأصبح ذلك الكتاب النص التأسيسى للموجة النسوية الثانية.