رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من يتألم أعمق يصمت أكثر فى ركن من المحطة

 

أسند كتفى تلسعنى حرارة الرخام، أنتفض، وماذا عن هذه الأجساد المتفحمة؟ بماذا شعرت؟ السواد يحيط بكل شىء، الرخام، الزجاج، الخشب، الهواء، تتخبط الأجساد، تقاوم الأذرع حصار الجحيم، تتساقط مشتعلة، مسكونة بالعذاب، متفحمة، مستلقية على ظهرها مفتوحة الفم، تشد الفكين صرخة أبدية، الذراعان مفرودتان باستسلام، الساقان متعامدتان، ساق مثنية وساق مفرودة، لا شىء، استسلام، كم تعذبت حتى ماتت الأعصاب، كم يحتاج الجسد البشرى من دقائق، من عذاب، حتى يتفحم؟ قطار ينفلت عن مساره، يصطدم بالرصيف، يشتعل البنزين، ينفجر من الصدمة، تمرح النيران، تمارس مجونًا سافرًا، تقوم بدورها المحتوم، يزداد الشره، يصل للسقف، يتحول لرماد يغطى الأرض، ويتصاعد الدخان، يستنجد بالسماء كى تكون شاهدة.

كلٌ يقوم بدوره وفق الخطة المرسومة مسبقًا والكومبارس يؤدون أدوارهم بيقين. 

الرجل الذى يجرى بجرادل المياه يصبها على النيران المشتعلة، المسعفون المصابون، المتفحمون، الكاميرات المتتبعة للموت، الأصوات، الصراخ، سارينة الإسعاف، الدخان، الرماد، تتراكم الجثث المتفحمة فى سوادها ونواحها وحدادها السرمدى.. تختفى ملامحها، يحل الفحم محل العضلات والعظام، تعود لسيرتها الأولى، ذرة كربون رباعية الأذرع لديها شبق دائم للارتباط والتفاعل، الكربون أساس كل الأحياء، الجامع بين المتناقضات، الوجود والعدم، الهشاشة والصلادة، القابل للتغير والتحور، بالحرارة والضغط.. تتحول ذرات الكربون للماس، الأندر، الأصلب، تتلألأ الجثث المتفحمة، تتحول لكريستالات ترتفع وترتفع، تلمع، تبرق، تخطف بصرى.. أضع يدى على عينى، أصرخ، أى شيطان يتلبسنى؟ بماذا أفكر؟ ماذا أفعل هنا؟ لم يصلنى إسكريبت الدور الذى علىّ أن أؤديه، تحركت دون هدف، كنت فى شقتى، وجدت رسالة على جروب القناة: القريب من محطة مصر يتجه لتغطية الحادثة، لماذا استجبت؟ موبايلى فى يدى، لا أستطيع أن أصور، لا أريد أن أسجل شيئًا، عشرات الكاميرات تلتهم الحدث، كاميرات تمتص حرارته، وكاميرات تزيد اشتعاله، وجوه كثيرة أعرفها، لن نعدم سبقًا ما، السبق لا يظل سبقًا إلا دقائق، ويزيحه سبق آخر، لهاث الأحداث لا يتوقف.. أحاول التقاط أنفاسى، تخرجنى من عدميتى وتناقض الفحم والماس يد معروقة، قوية، تحكم قبضتها على ذراعى، وشفتان جافتان وعينان غائمتان. 

- ابنى أخذته الإسعاف، والنبى تدلينى، خدوه فين؟

أندفع فى اتجاه عربة الإسعاف حيث تشير، ألمح عبارة مستشفى الجلاء. يرسل لى القدر دورًا، أقبله، أمسك بيدها: 

- تعالى يا ست هوديك عند ابنك.

لا ترد، أحاول كسر رهبتى:

- اطمنى المكان قريب.

لا تفك قبضة أصابعها عن ذراعى، أستحى من عدم قدرتى على تحمل ضغطة أصابعها المتشبثة بأى أمل، تتكشف أنانيتى، عدم قدرتى على التحمل، كيف لا أتحمل ضغطة من يد، وحولى ينتشر كل الألم. 

نحاول شق طريق وسط جموع قادمة تستطلع الخبر، أصابعها الخشنة، يمكنك أن تعرف شقى الرجال من تهدل أكتافهم، شقى النساء يتجذر فى جلد أيديهن الخشنة، الشقى، غير التعاسة، غير الحزن، غير الاكتئاب، الشقى فعل، جهد، تعب بدنى، عمل، إنتاج، زرع، حصاد.

وصلنا المستشفى، الطرقات مكتظة بالمصابين، وكثير من الأهالى، متى عرفوا؟ كيف جاءوا؟ تنقلنا من غرفة لأخرى، عند أحد الأبواب، فكت يدها عن ذراعى، تقدمت لأحد الأسرّة المحاطة بقفص من حديد، رفعت الملاءة، جاءت ممرضة مسرعة، أخرجتها، أمسكت بيدها، أدعوها للخروج، اقتربت منها، غمرتنى رائحتها التى هى خليط من روائح الدقيق والجبن واللبن مع الكبريت. 

أبعدتنى برفق، وأخرجت موبايل صغيرًا من محفظتها ومدت يدها لى: أكلم أخوه يا بنتى. 

أخذت الموبايل، نظرت للشاشة: أنا أسفة، الموبايل بالعربى. 

أسأل ممرضة أن تساعدنا، تزيحنى من طريقها، أطلب من شاب يرتدى جلبابًا أن يساعدنا.

تمسك الموبايل، تتكلم بصوت واضح، حاد: تعالى فى عربية، جهز قبر أخوك، ماتخبرش أبوك يا ولدى، قوله إحنا بخير، أخوك بخير يا ولدى، هينة يا ولدى، قدر ولطف. 

أنظر لها باندهاش، ما هذه المُخرفة؟ قدر إيه ولطف إيه؟ 

- يا بنى، ألمه راح، اللى بيموت بيطيب، أخوك طاب يا ولدى. 

أصرخ فى وجهها: أنت ليه كده؟ ابنك مات. 

تجيب بهدوء: طاب يا ابنتى، وجعه راح يا ضناى.

أهزها: ابنك مات. 

- نجا يا بنتى، المهم راحته، خلاص النار فارقته، خلاص النار فارقته.. أخذت ترددها، تحوّل صوتها لهمس أنفاس متقطعة.

ابتعدت عنها، هذه الحكمة لن أفهمها، لن أتعاطف معها، هذا التسامح لن أقبله. 

تركتها وابتعدت، بحثت عن شىء أستند اليه، عن شعور أعبر به، عن السخط، عن الغضب، عن الحزن، عن الخوف، كل شىء كان موجودًا لكنه ثابت، لا مبالٍ، صامت يتحرك باعتيادية، كعقرب ساعة. 

أخذت أجرى، كقوقعة متحركة، وسط سكون بارد، لم أرغب فى العودة، لم أرغب فى شىء، رائحة الشواء والشعر والجلد المحترق تمر أمام عينى، الروائح تسكن أنفى، أجرى عكس اتجاه السيارات، لا أتذكر أين ركنت سيارتى ولا أعرف إلى أين أذهب، كل الأماكن لها مفاتيح، وأنا لا أملك مفتاحًا واحدًا لشىء.