رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانحطاط.. تاريخ هولندا وحاضرها

 

غدًا، وككل ٥ ديسمبر من كل عام، يقوم البيض فى هولندا بطلاء وجوههم باللون الأسود، ويضعون أحمر الشفاه والشعر المستعار المجعد، وأقراطًا ذهبية، ويرتدون ملابس ترجع إلى ما يوصف بـ«عصر النهضة»، تجسيدًا لشخصية خيالية، تسمّى «بيت الأسود»، Zwarte Piet، تجسّد تاريخًا من العنصرية واستعباد الهولنديين لشعوب دول أخرى، لا يمكن أن يوصف الاحتفال أو الاحتفاء به بأقل من كونه انحطاطًا ووضاعة.

لجنة القضاء على التمييز العنصرى، التابعة للأمم المتحدة، كانت قد أوصت سنة ٢٠١٥ بالتوقف عن هذا الفعل العنصرى، ورأت أن التقاليد الثقافية القديمة لا تبرر تلك الممارسات، التى تعبر عن صور نمطية سلبية من بقايا العبودية، يعانى منها المواطنون المنحدرون من أصول إفريقية. غير أن مارك روتا، رئيس الوزراء الهولندى، رفض توصية اللجنة الأممية، بزعم أن هذا الاحتفال مجرد تقليد شعبى ولا شأن للسياسة به!

لا يزال «روتا»، Mark Rutte، فى منصبه، الذى يشغله منذ ١٤ أكتوبر ٢٠١٠. وبعد ٢٢٥ يومًا بين إعلان نتيجة الانتخابات وأداء مجلس الوزراء اليمين، كانت أطول فترة استغرقها تشكيل ائتلاف حاكم فى التاريخ الهولندى، جرى فى ٢٦ أكتوبر ٢٠١٧، تشكيل حكومة روتا الثالثة التى استقالت منتصف يناير الماضى. غير أن حزبه، حزب «الشعب من أجل الحرية والديمقراطية»، فاز بالعدد الأكبر من المقاعد فى انتخابات مارس الماضى، فقام بتشكيل الحكومة الرابعة، وبفارق ضئيل تجاوزه التصويت على سحب الثقة فى ٢ أبريل، ما وضعه فى مأزق، ربما يفسر خضوعه لجماعات الضغط، خاصة بشأن سياساته الخارجية. وما قد يستوجب بعض الدهشة، وكثيرًا من السخرية، هو أن وسائل إعلام هولندية ذكرت، فى ٢٩ سبتمبر الماضى، أن أجهزة الأمن عززت إجراءات الحماية المفروضة عليه، بعد حصولها على معلومات بشأن مخطط لاختطافه!

إنها «دولة غريبة»، كما وصفتها ميريام دى برويخن، أستاذة الأنثروبولوجى «علم الإنسان» بجامعة ليدن، التى ترى أنه «من المستحيل أن تنظر إلى هولندا كدولة ديمقراطية»، موضحة أن إرثها الاستعمارى ظاهر للعيان فى شوارعها بشكل مستمر، وأنها ما زالت «أمة بيضاء» لا تعرف المساواة وتتغلغل فيها العنصرية.

الممارسات العنصرية الممنهجة، أكدها الشاعر جيرى أفريى، الذى يقود حركة «أوقفوا الاحتفال ببلاك بيت»، والذى سبق أن اعتقلته السلطات الهولندية عدة مرات، بإشارته إلى أن لديهم «حوادث وفاة مشابهة للطريقة التى قتل بها الأمريكيون جورج فلويد». وبالفعل، ستجد بقليل من البحث، عددًا من تلك الحوادث، من بينها حادث «تومى هولتن»، الذى مات بعد ساعة من إلقاء القبض عليه، فى ١٤ مارس ٢٠٢٠، وأظهر مقطع فيديو ضابطًا وهو يضغط بقدمه على وجه هولتن. كما ستجد أن ضابط شرطة عوقب بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ، لأنه ظل يضغط بركبته على رقبة ميتش هنريكيز، أثناء اعتقاله، حتى مات.

هولندا دولة صغيرة، فى غرب أوروبا، تزيد مساحتها قليلًا على ٤٠ ألف كم٢، وكانت جزءًا من الإمبراطورية الإسبانية، لكن بسقوط غرناطة، نهاية القرن الخامس عشر، تغيّرت موازين القوى، وأتاح الموقع الجغرافى لتلك الدولة الصغيرة أن تلعب دوّرًا مهمًا فى الملاحة البحرية. وأن تتحول إلى إمبراطورية استعمارية تنافس بريطانيا وفرنسا، فى آسيا وإفريقيا، وتفرض سيطرتها، لأكثر من ٢٥٠ سنة، على مساحات شاسعة فى المناطق المعروفة الآن، بإندونيسيا وجنوب إفريقيا وغينيا الجديدة وجزيرة كوراساو، ونهبت ثروتها واستعبدت سكانها، ولم تكن تعاملهم، رجالًا ونساءً وحتى الأطفال، على أنهم بشر.

فى محاولة لتجميل هذا الإرث المنحط، يزعم الهولنديون أن مرتكبى تلك الجرائم كانوا عددًا محدودًا من أسلافهم. لكن تاريخهم وحاضرهم يؤكدان أن المجتمع الهولندى، بمختلف فئاته ومستوياته، كان شريكًا فيها، ومستفيدًا منها، وأن هذا الإرث لا يزال قائمًا، ويتم الاحتفاء به، فى ٥ ديسمبر من كل عام، بطلاء الوجوه باللون الأسود ووضع أحمر الشفاه والشعر المستعار المجعد و... و... وارتداء الملابس التى ترجع إلى ما يصفونه بـ«عصر النهضة»، بينما لم يكن فى الحقيقة غير واحد من أكثر عصور التاريخ انحطاطًا ووضاعة.