رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن مغزى القراءة

كان يا ما كان فى حديث الزمان، وفى مكان ارتبط فى أذهان المصريين بالبطاطس وتوسكانينى الأستاذ همام فى أمستردام، ظهر كاتب يُدعى بيتر شتاينس الذى بالتأكيد لم يكن يعلم أن كتاباته ستغير حياة كاتب آخر من نسل الفراعنة يبحث عن إجابات لنفس أسئلته. 

ملمس الكتاب الأخير الذى كانت تقرأه أمى فى المستشفى قبل غيبوبة وفاتها بسبب السرطان أيقظ بجانب رهبة الموت والفقد فضول الكاتب، كنت أسأل نفسى: لماذا كانت تقرأ بهذا الإصرار حتى وهى تعلم أنها فى لحظاتها الأخيرة؟ 

فى نفس التاريخ تقريبًا، وهو عام ٢٠١٣، أخبر بيتر أصدقاءه لأول مرة عن إصابته بمرض التصلب الجانبى الضمورى، هذا المرض طبيعته نادرة، وبسببه ظهر تحدى سكب دلو الماء المثلج الذى اجتاح منصات التواصل الاجتماعى لجمع التبرعات لنفس المرض، لكون الحالة تعادل نفس مقدار الألم دون الأعراض.. اختصاره أن كل عضلات ووظائف الجسم الحيوية تبدأ بالضمور، فيحتاج المريض به فى أسوأ الحالات- مثل حالة بيتر- إلى العديد من الأشياء، أبسطها رئة خارجية يتنفس بها يتم تفريغها كلما امتلأت، كما يتناول طعامه بأنبوب، ويتحدث عبر الآيباد. 

هل كان يشعر بأن فى مصر ستظهر بعض جروبات ستختصر مغزى القراءة فى كتابة ريفيوهات عن روعة رواية ما، وسفه أخرى مع بعض التنمر على شخص الكاتب نفسه؟ على سريره قرر أن يتعلم الحياة من جديد من خلال القراءة، فبدأ رحلة طويلة يبحث فيها عن المشتركات بينه وبين أبطال روايات كافكا وديكنز، وأفلاطون وشكسبير وكتّاب آخرين، ليكتب حتى وفاته خمسين مقالًا وصلت إلينا فى كتاب «مغزى القراءة»، الذى ترجمه محمد رمضان حسين، وأصدرته دار مصر العربية للنشر والتوزيع. 

رحلة مثيرة ومؤلمة فى نفس الوقت خضتها بين قائمة قراءات المؤلف الأخيرة التى اختارها بعناية، من خلالها وجد خطًا مشتركًا بينه وبين أبطال الروايات ليعيد فهم معانى العجز والفراق والاستسلام وتغير الحواس وبهجة لحظات الحياة الأخيرة، من خلال ربط ما شعر به أثناء مرضه وما قاله الأبطال من أفكار وأحاسيس.. أثناء القراءة اكتشفت أنا أيضًا أننى أشترك معه ومع شخصية رواية «ما تخبئه لنا النجوم» الرئيسية حين قال عن خوفه من النسيان: «أخشى ألا يكون لدىّ ما أقدمه مقابل حياتى، وأخشى ألا يكون لحياتى أو موتى أى أهمية».. بدت لى صرخة إحدى ساحرات مسرح شكسبير المذكورة فى الكتاب بقولها: «لقد غدا الحُسن قبحًا والقبح حسنًا»، وكأنها تنبؤ لما حدث بالحرف فى عالم القراءة فى مصر بعد تغير قواعد النقد وتذوق الأدب الحقيقى. 

الكتاب حمل تساؤلاتى وهواجسى الشخصية الدائمة، ومنها على سبيل المثال ما الذى حدث لنتوقف عن اكتشاف الحياة عبر الكتب؟ كيف تحول مغزى القراءة إلى فن للتوجيه المباشر؟ كيف سطّحناها لتتحول إلى شكل اجتماعى وتفاخر بالاقتناء، مع تصويره بجانب فنجان قهوة على خلفية موسيقية دون أن يحدث أى انعكاس ثقافى حقيقى يهذب السلوكيات سواء للقارئ أو حتى لأصحاب بعض الجروبات شخصيًا؟ يظهر هذا بوضوح كلما حدثت مشكلة فكرية ليبدأ التشدد الكامن خلف القراء بالظهور بنعومة ومبررات الثعابين.. هل نحتاج حقًا إلى أن نمرض بمرض نادر أو نقترب من الموت حتى نفهم أن فى داخل الكتب والروايات حياة شديدة الثراء بعيدة كل البعد عن سطحية القراءة؟ 

ربما وصلت أمى وبيتر قبل وفاتهما إلى تلك المرحلة من الشفافية لدرجة تحديد قائمة القراءة الأخيرة بمنتهى النضج، مؤمنيَن بما قاله بطل عنوان مسرحية أخرى لشكسبير: «الموت مصير الجميع يأتى حين يتحتم أن يأتى».. لكننى بعد قراءة هذا الكتاب أدركت أننا ميتون بالفعل حتى مع غزارة الإنتاج الأدبى الحالى فى مصر، ميتون بين قوائم الجوائز والريفيوهات التى تشجع على قراءة كتب ضحلة، وسط الكثير من الزخم الفارغ حتى على مستوى العالم العربى، لأن القراءة وفهم ما وراء الكلمات لم تعد تمس حياتنا ومشاعرنا، ولهذا تاه عن قلوبنا وأرواحنا مغزاها.. وحين أنهيت هذا الكتاب الملهم على مدى يومين، ظل عقلى يتساءل: كيف سيكون شكل قائمة قراءتى إذا كانت الأخيرة؟ وهل فكر أى قارئ حتى فى ذلك؟.