رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حب ودين وتقاليد.. على جناح «البوسطجى»

خلال عصر محمد على وحلفائه الأوائل اشتعلت فى مصر حركة تجارية كبيرة، كان أبطالها أجانب ومجموعة من التجار المحليين. بلغت هذه الحركة ذروتها فى عصر الخديو إسماعيل، الذى أراد أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، ففتح كل خطوط التواصل بينها وبين العديد من الدول الأوروبية، لعقد الصفقات التجارية. 

وعلى المستوى الاجتماعى بإمكانك أن تقول إن مصر شهدت انقلابًا كاملًا فى أساليب الحياة خلال فترة إسماعيل، وهو انقلاب مسّ العديد من أوجه الحياة اليومية للمصريين، فأثّر فى طريقة بنائهم البيوت، وتنظيم الموائد، وهيئة اللبس، وطرق اللهو وقضاء وقت الفراغ، وقد مس هذا التحول أول ما مس الطبقات العليا من المجتمع، ثم بدأ صداه يصل، بعض الشىء، إلى الطبقات الأدنى.

التحول الاقتصادى والاجتماعى الذى شهده عصر إسماعيل كان يُواجه بعقبة أساسية تتمثل فى عدم وجود أدوات اتصال جيدة قادرة على توفير جسر تفاعل بين الأطراف المختلفة المنخرطة اقتصاديًا فى صفقات، او اجتماعيًا فى علاقات، وقد ظل الحال كذلك حتى ظهر «البريد» فى حياة المصريين.

عرف المصريون «البريد» النظامى على يد الوالى الكبير محمد على، فكانت الرسائل تحمل برًا عن طريق السعاة أو بحرًا عن طريق السفن- كما يذهب «صالح رمضان» فى كتابه «الحياة الاجتماعية فى مصر فى عصر إسماعيل» - لكن الحركة كانت محدودة، وكانت مكاتب البريد التى أنشأتها بعض الجاليات الأجنبية فى مصر حتى لا تحرم نفسها من هذه الخدمة أكثر نشاطًا وسطوعًا، وشاركها فى الاستفادة منها أكابر المصريين أو الأجانب، أما البشر العاديون فلم يعرفوا شيئًا عن الجوابات أو المراسيل أو المكاتيب، إلا بالطرق التقليدية التى ورثوها عن جدودهم «حمام الزاجل- والمرسال أو الرسول الذى يبلغ الخبر شفاهة».

وعندما اعتلى إسماعيل سدة الولاية فى مصر- قبل أن تتحول إلى سدة خديوية- قرر أن يشترى مصلحة البريد التى أسسها أحد الإيطاليين الذين يعيشون بمصر، ودفع له فيها مبلغ ٤٦ ألف جنيه، وعينه مديرًا إداريًا لها، وكان أغلب من يعملون فى المصلحة فى ذلك الوقت من الأجانب، وبدأت الأمور تختلف شيئًا فشيئًا عندما اعتلى أحد الإنجليز «كليار» سدة الإدارة، فاستعان بأولاد العرب فى العمل بالمصلحة، وساعدت خطوط السكك الحديدية المنتشرة بمصر فى تسهيل عمل المصلحة، وبعدها بدأت طوابع البريد تدخل إلى الخدمة لتحل محل النقود.

وبمرور الوقت بدأت مصلحة البريد تتمصر بشكل كامل، فاختفت مكاتب البريد الأجنبية، وانتشر بمكاتبها ومقارها الموظفون المصريون، بل وبدأت «الجوابات» تتغلغل فى حياة المصريين، وتصبح إحدى أدوات التواصل الاجتماعى والإنسانى بينهم، وكانت مسرحًا للعديد من الأحداث والحكايات الخطرة التى ألهمت الكتاب والروائيين العديد من الأفكار التى بدأت تطرق بعض المساحات المجهولة فى حياة المصريين، وأخذت هذه الأحداث وجهًا اجتماعيًا فى أحيان، ووجهًا دينيًا فى أحيان أخرى.

كان أحد مكاتب البريد بواحدة من قرى الصعيد مسرحًا للرواية البديعة التى كتبها المبدع الراحل «يحيى حقى» تحت عنوان «البوسطجى»، وهى الرواية التى سلطت الضوء على الحالتين الاجتماعية والدينية فى صعيد مصر عبر شخصية عباس «ناظر مكتب البريد» بقرية «كوم النحل» والذى سقط فى جريمة تلصص على الجوابات الصادرة عن والواردة إلى القرية، ومن بينها الجوابات المتبادلة بين الفتاة «جميلة» وحبيبها «خليل».

اختار يحيى حقى عائلتين من أقباط الصعيد وهو يرسم أحداث روايته الشهيرة، الأولى من قرية «كوم النحل» التى كان يعيش فيها المعلم سلامة مع زوجته وابنته جميلة، والثانية من قرية النخيلة التى كان يعيش فيها المعلم «إبراهيم» مع زوجته وولده «خليل». رغم التشابه العميق بين المسلمين والأقباط فى الصعيد، فى أسلوب الحياة والعادات والتقاليد، فإن الأسر القبطية كانت تتمتع بقدر ولو قليل من الانفتاح، دفع المعلم سلامة إلى الموافقة على إلحاق ابنته بمدرسة داخلية للبنات بأسيوط أسسها مبشر بروتستانتى، تعلمت فيها القراءة والكتابة والأشغال المنزلية وشغل الإبرة وغير ذلك.

فى بيت صديقتها مريم تعرفت «جميلة» إلى «خليل» شقيق مريم، كان قد تحول عن مذهبه الأرثوذكسى فأصبح بروتستنتيًا بسبب التحاقه بإحدى المدارس التى يديرها المبشرون الأمريكيون، تخرج فى المدرسة، وبات على أعتاب الالتحاق بوظيفة مدرس لغة إنجليزية بإحداها، توثقت العلاقة بين الاثنين حتى ذابت الحدود الفاصلة وكان بينهما ما كان، استدعى «خليل» لوظيفته فى الإسكندرية، ووعد جميلة بالعودة بعد شهر ليخطبها من أبيها، وأصبحت الجوابات هى الوسيلة المتاحة للتواصل وبث الهوى فيما بينهما وذلك عبر هيئة البريد.

التقى خليل وجميلة على صفحات «الجوابات» التى يحملها «البوسطجى» من الإسكندرية إلى كوم النحل، ومن كوم النحل إلى الإسكندرية، وفّى «خليل» بوعده لها وخطبها من أبيها، لكن الزيجة تعثرت بسبب اختلاف المذاهب، فجميلة أرثوذكسية، وخليل بروتستانتى، ولا بد من القيام بإجراءات كنسية معينة قبل إتمام الزواج، فضاع أمل جميلة، وعاد خليل إلى الإسكندرية. 

كان ثمة ثمرة للعلاقة المحرمة بين الحبيبين ينمو فى أحشاء جميلة، وكان لعباس ناظر مكتب البريد بكوم النحل دور مهم فى الوصول بالأحداث إلى نهاية كارثية، حين قرر أن يتلصص على الرسائل المتبادلة بين الحبيبين حتى يقتل إحساسه بالوحدة والملل، فحدث مرة أن ختم متن رسالة من خليل إلى جميلة بعد أن قرأها ونسى أن يعيدها ويغلق عليها الظرف، وتعقدت الأمور أكثر بوفاة المرأة التى كانت تتسلم منه خطابات خليل لتعطيها لجميلة فى الخفاء، وانتهى المشهد بمقتل جميلة حماية للشرف.

انشغل المصريون بالبريد أيما انشغال، وأصبحت الرسائل والمكاتيب موضوعًا للعديد من الأغنيات الجميلة التى أبدعتها القريحة الفنية المصرية، مثل «أكتب لك جوابات» و«عاوز جواباتك» و«أبعت مراسيل» و«البوسطجية اشتكوا»، ويتردد أن هذه الأغنية تم منعها من الإذاعة بعد اعتلاء الرئيس جمال عبدالناصر سدة حكم مصر، وقد أكد أكثر من ناقد فنى أن هناك مونولوجًا لإسماعيل باسين بعنوان «شى يا بتاع البوسطة» تم منعه من الإذاعة أيضًا حتى لا يفهم منه أى إساءة لجمال عبدالناصر لأن والده «عبدالناصر حسين» كان يعمل ساعيًا للبريد داخل المصلحة التى أسسها الخديو إسماعيل. 

إنها مصلحة البريد التى تحولت إلى مسرح للعلاقات التى يحكمها الدين فى أحوال والسياسة فى أخرى.