رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيد المتوسط

بأحرف «MED Day»، أضىء مبنى وزارة الخارجية، واحتفلت مصر، أمس الأحد، بعيد أو «يوم المتوسط»، إيمانًا بانتمائها المتوسطى، وانطلاقًا من الدور، الذى لعبته على مر العصور، سواء بتواصل الثقافات والحضارات على أرضها أو بالمساحة الكبيرة التى تحتلها الهوية المتوسطية فى الفكر المصرى. 

سمات مشتركة عديدة تجمع بين مختلف الشعوب التى تحيط بالبحر الأبيض المتوسط. وبرغم الصراعات العسكرية والعقائدية والسياسية والاقتصادية، التى دارت بين ضفتى البحر، الجنوبية والشمالية، ظهرت منذ منتصف القرن العشرين، دعوات إلى «تعاون متوسطى»، يجمع الضفتين. وتدريجيًا، صارت المياه، التى تعكّرت وكانت فى أغلب الأحيان مختلطة بالدماء، رائقة وصافية، إلا قليلًا. 

فى ٢٨ نوفمبر ١٩٩٥، عقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبى و١٢ دولة بجنوب وشرق البحر المتوسط، «المؤتمر الأورومتوسطى» الأول فى مدينة برشلونة الإسبانية. وخلال المؤتمر قاموا بالتوقيع على اتفاقية لإطلاق «عملية برشلونة» التى أسست، بعد ١٣ سنة تقريبًا، لما بات يعرف بـ«الاتحاد من أجل المتوسط»، ووضعت أسس علاقات إقليمية جديدة، مثلت نقطة تحول فى التعاون المتوسطى. وعليه، قررت الدول الأعضاء فى الاتحاد، وهى تحتفل، العام الماضى، باليوبيل الفضى لإطلاق العملية، اعتماد ذلك اليوم عيدًا، أو يومًا، للمتوسط، ودعت كل الدول الأعضاء للاحتفال بهذا اليوم بإحياء مبادئ وقيم «عملية برشلونة»، والتأكيد على «التزامنا المشترك بالتعاون الأورو- متوسطى»، وتسليط الضوء على أهمية التضامن الإقليمى.

ارتكزت «عملية برشلونة» على ثلاثة مبادئ، قيم، أهداف أو سلال، رئيسية: السلة السياسية وهدفها تحديد منطقة مشتركة للسلام والاستقرار عبر تعزيز الحوار السياسى والأمنى.. والسلة الاقتصادية التى تهدف إلى بناء منطقة للازدهار المشترك من خلال شراكة اقتصادية ومالية وتأسيس تدريجى لمنطقة تجارة حرة بحلول ٢٠١٠.. إضافة إلى السلة الثقافية، لتشجيع التفاهم بين الثقافات والتبادل بين المجتمعات المدنية. وبفضل تلك العملية، وجهود السنوات التى تلت إطلاقها، حدث تقارب سياسى، اقتصادى، ثقافى وإنسانى بين ضفتى المتوسط الشمالية والجنوبية، وتم دفع علاقات التعاون والشراكة بين الجانبين. كما شكّلت صيغة الشراكة الأوروبية المتوسطية إطارًا مناسبًا لتعاون الاتحاد الأوروبى ودول حوض البحر المتوسط الجنوبية والشرقية.

فى هذا السياق، وبعد ١٣ سنة تقريبًا، من بدء الحوار بين دول جنوب البحر المتوسط ونظيرتها الأوروبية، تجسّد التعبير عن «حسن النية» بين الجانبين بإنشاء «الاتحاد من أجل المتوسط»، سنة ٢٠٠٨، فى محاولة لوضع إطار عملى أكثر تنظيمًا للتعاون، ولمعالجة الأسباب الجذرية لكثير من الأزمات، التى ما زلنا نواجهها إلى اليوم. وإنْ كانت «السياسة الأوروبية للجوار»، ENP، تدفع على المدى المتوسط باتجاه العودة إلى المظلة الثنائية للعلاقات بين الدول، وبالتالى إهمال التعاون الإقليمى القائم فى إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية!

مصر، التى جاءت أولًا، ثم جاء بعدها التاريخ، لعبت، كعادتها، دورًا كبيرًا ومهمًا فى الدعوة لوحدة متوسطية، وكانت شريكًا رئيسيًا فى كل المؤسسات الهادفة إلى تحقيق ذلك، واستضافت مقر مؤسسة «آنا ليند للحوار بين الثقافات»، فى مدينة الإسكندرية: المدينة ذات التجربة الكوزموبوليتانية الفريدة، التى كانت مكتبتها القديمة، منذ إنشائها سنة ٣٠٠ قبل الميلاد، واحدة من أكبر وأهم المكتبات فى العالم. 

المؤسسة الأولى لعملية برشلونة فوق «الأرض العربية»، تحمل اسم وزيرة الخارجية السويدية، التى اغتيلت سنة ٢٠٠٣، ويتركز عملها على ثلاثة محاور أساسية: تمكين الأصوات الشابة؛ التأثير فى واضعى السياسات؛ وإنشاء حركة لإقامة جسور الحوار وتبادل الآراء فى مواجهة انعدام الثقة والاستقطاب الآخِذَيْنِ فى التزايد بين المجتمعات. وفى إطار دعم مصر لهذه المحاور، أو الأهداف، استقبل سامح شكرى، وزير الخارجية، الأميرة الأردنية ريم على، منتصف سبتمبر الماضى، فور توليها رئاسة المؤسسة، خلفًا للفرنسية إليزابيث جيجو.

.. وأخيرًا، لو خلصت النوايا، أو النيات، ولو تقلصت فجوة الاختلافات والفوارق، وحال تخلّى بعض دول الجانب الأوروبى عن أحلامها الاستعمارية القديمة، أو القائمة، واحتواء الأحكام المسبقة لدى الجانبين، يمكن لدول المتوسط أن تلعب دورًا مهمًا على المستوى الإقليمى، وأن تطلق مشروعات دولية واسعة النطاق، وأن تواجه التحديات المشتركة المزمنة، كالتغير المناخى، الهجرة غير الشرعية و... و... والإرهاب.