رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالكريم المصرى

 فى مقالنا السابق تحدثنا عن عبدالكريم الهندى، وفى هذا المقال نتحدث عن عبدالكريم آخر، ذكره الكاتب والشاعر الفرنسى جيرار دى نرفال فى مصر فى عصر محمد على، وعلى الأرجح فى 1848.. عندما زار نرفال مصر استقر فى القاهرة، ولأنه كان بخيلًا فقد رفض الإقامة فى الفنادق، وقرر أن يشترى أو يستأجر بيتًا ليقيم فيه.. وعندما شرع فى الإقامة فى البيت فوجئ بشيخ الحارة يطلب منه أن يغادر المنزل فورًا؛ لأنه غير متزوج، وليس من حقه أن يقيم وسط الأسر والعائلات.  حاول نرفال أن يتزوج، وتقدم إلى أسرة أمر شابة مسيحية أعجبته، ولكنه فوجئ بأنه لا طاقة له على التكاليف المادية للزواج على الطريقة المصرية، فأشار عليه قنصل فرنسا بأن يتخذ له جارية، وهى قصة سنتعرض لها فى موضوع مستقل. ذهب نرفال إلى سوق الجوارى ومعه مترجمه عبدالله بعد أن ركب حمارًا مخططًا كالحمار الوحشى، وأحاط ثيابه الجديدة بشىء من التأنق، لأنه ما دام ذاهبًا لشراء النساء فلا ينبغى أن يجفلن منه، وفى سوق النخاسة تعرف على عبدالكريم. كان عبدالكريم أشهر تجار الجوارى، وفى مقدوره أن يقدم جوارى رائعات الجمال. وضع عبدالكريم يده على صدره مرحبًا بنرفال، على طريقة المصريين التى لا تزال متداولة حتى اليوم بين التجار وأهل القرى وفى الصعيد، ودعا الفرنسى للجلوس بجواره وأحضر له النرجيلة والقهوة، وأخبره المترجم بأن نرفال يقيم إقامة دائمة فى القاهرة بتجهيز بيت فيها. يصف نرفال، عبدالكريم بأن «وجهه دقيق، ووقور، ونظرته نافذة، وحركاته رقيقة، وبه خليط من بشاشة الأمراء وتصميم القراصنة المجرد من الرحمة، وقد تمكن من ترويض الجوارى بذلك التعبير الثابت الصادر من عينيه الحزينتين».  يقول نرفال: كان فى عينىّ عبدالكريم من السحر ما جعلنى أوقن أنه من المستحيل ألا أعقد صفقة معه. كان خوف نرفال أن تكون الجارية التى سيبتاعها قد عشقت عبدالكريم، وأن عبدالكريم عاشرها. كان الفناء المربع الذى يمرح فيه عدد كبير من النوبيين والأحباش قد دخل فيه عدد من المشترين، وبدأوا يفحصون العبيد المتجمعين فى الفناء بألوانهم المتفاوتة فى الحلكة، كانوا يطلبون منهم المشى أمامهم، ويضربون على ظهورهم وصدورهم ويجعلونهم يخرجون ألسنتهم. كانت هناك امرأة ملتفة بغطاء أصغر، وكانت تبكى وتخفى وجهها فى عمود من أعمدة البهو، حيث صفاء السماء الحزين والنقوش الضوئية التى كانت أشعة الشمس ترسمها وهى ترسل زواياها الطويلة فى الفناء. مر جيرار دى نرفال خلف العمود ليتمكن من رؤية وجهها، ويقول: «كان وجهها أبيض، وكان هناك طفل يضم نفسه إليها وهو نصف متدثر بمعطفها، ومهما بذلنا من جهد لتقبل الحياة الشرقية، فإننا نشعر فى داخلية أنفسنا أننا فرنسيون مرهفو الحس فى مثل تلك المناسبات، وقد مرت بخاطرى لحظة فكرة شرائها لو استطعت ثم عتقها. غير أن عبدالله، مترجمه، أخبره بأنها ربما كانت محظية أحد الأفندية وقد أرسلها إلى السوق عقابًا لها على خطأ ارتكبته، وهم هنا يتظاهرون ببيعها هى وطفلها، وبعد أن تمضى بضع ساعات يأتى سيدها ويأخذها. كانت هى الجارية الوحيدة التى تبكى، إنما تبكى سيدها، أما الأخريات فكنّ فى قلق خوفًا من البقاء مدة طويلة عند عبدالكريم دون العثور على سيد لهن. يقول جيرار دى نرفال: «إن ذلك ولا ريب ما يشهد لصالح أخلاق المسلمين.. قارن ذلك بمصير العبيد فى البلاد الأمريكية.. الحقيقة فى مصر لا يعمل فى الأرض سوى الفلاح، فهم لا يفرطون فى قوى العبد لأنه غالى الثمن، وإنما يحتفظون بها للأعمال المنزلية، هذا هو الفارق الشاسع بين حالة العبيد فى البلاد التركية وحالتهم فى البلاد الغربية». وفى قاعة فسيحة ذات نقوش منحوتة تزيد فى فخامتها الكتابات العربية المخطوطة والمذهبة، شاهد جيرار دى نرفال خمس نساء على شىء من الجمال، وقد اصطففن محاذيات للحائط، وكان لون بشرتهن يشبه لون الفلورنسيات، فقد كانت وجوههن منتظمة، وأنوفهن مستقيمة وأفواههن دقيقة، وكان شكل رءوسهن البيضاوى الكامل، واستقامة رقابهن الرشيقة، وصفاء ملامحهن، يضفى عليهن شكل أولئك القديسات الإيطاليات المصورات اللاتى شحب لونهن مع الزمن، كنّ حبشيات مسيحيات، وربما كنّ من سلالة القديس يوحنا أو الملكة كانداس الحبشية التى اشتهرت بالجمال، غير أنهن لم يرُقن لنرفال الفرنسى. لاحظ عبدالكريم أن نرفال لم تعجبه البضاعة، فأمر بإدخال واحدة أخرى، جاءت بخطى متكاسلة وأخذت مكانها بجوار الحائط.  وصدرت من نرفال صيحة إعجاب، فقد شاهد العين اللوزية، والجفن المائل المميز للجاريات، وكان قد رأى رسومهن التى رسمها أحد الفنانين فى هولندا.  لم يتمكن نرفال من مقاومة سحرها، وقرر أن يشتريها، فقد ظهر بريق عينيها المعدنى، وبياض أسنانها، ورخص يدها، وطول شعرها البنى الغامق عندما رفعوا عنها طربوشها. نزل نرفال وعبدالكريم أسفل المنزل لإتمام الصفقة.  وقال عبدالكريم إن الفتاة جاءت الليلة البارحة إثر قافلة. نقل نرفال للمترجم أن الفتاة باتت فى بيت عبدالكريم، كان خوف نرفال أن تكون الجارية التى سيشتريها قد عشقت عبدالكريم، أو على أقل الاحتمالات أن يكون عبدالكريم قد عاشرها جنسيًا. أخبره المترجم بأن نساء عبدالكريم الشرعيات لن يتركنه يغازل جارية، وفوق ذلك فهو تاجر، وأنه لو فقد سمعته فى هذا الأمر فإنه سيفقد كل عملائه. وأقسم المترجم عبدالله لنرفال أن عبدالكريم يقضى الليل كله فى الصلاة فى المسجد، لأن الليلة كانت ذِكرًا بالمولد النبوى.  طلب عبدالكريم خمسة أكياس، أى ستمائة وخمسة وعشرين فرنكًا.  ترك نرفال، عبدالكريم بعد أن أعطاه العربون، على وعد بأن يأتى بباقى الثمن من حسابه لدى البنك الإفرنجى.