رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كل الشهور يوليو».. رواية تُزيِّف التاريخ

يرجع مصطلح «الرواية التاريخية الزائفة» إلى «جورج لوكاش» فى كتابه «الرواية التاريخية»، حيث كان يحاول أن يضع حدودًا فاصلة بين الرواية التاريخية الحقيقية وغيرها، ونحن نستعير المصطلح لمحاولة توصيف النص الذى نتناوله بالنقد فى هذه السطور.

إن نص «كل الشهور يوليو» الذى يتزين بأنه «رواية» فى وصف نفسه كنوع أدبى، يعود ليخالف ميثاق النوع الذى يتزين به لصالح ادعاء أنه يقول الحقيقة، والحقيقة فقط، إذ يخاطب قارئه عبر كلمة الناشر الترويجية المثبتة فى الغلاف الأخير من النسخة المطبوعة بقوله: «حاول أن تنسى كل ما تعرفه لتتعرف الآن على الحقيقة»، كما يخاطب المؤلف- نفسه- القارئ عبر عتبة افتتاحية مثبتة فى صدر النص بأنه: «إلى الذين يبحثون عن الحقيقة» (ص ٥)، ثم عتبة نصية أخرى تؤكد ذات المعنى بأننا أمام الحقيقة، إذ يقول: «كل شخصيات هذه الرواية حقيقية، وجميع أحداثها تستند إلى عشرات المراجع والمصادر» (ص ٧)، دون أن يسرد علينا مرجعًا واحدًا من تلك المراجع، أو حتى يورد اسم مصدر من مصادره، لنتحقق من هذه الحقيقة التى يدعى امتلاكها وإنتاجها.

إن إعادة بناء أى تاريخ تعتمد على انتقاء الأحداث، وإعادة تركيبها «سردها» بما يمنحها كشفًا خاصًا أو معنى، وعملية الانتقاء التى تتطلبها إعادة البناء تحتاج إلى اختيار مصادر، ومعرفتنا بهذه المصادر، التى يخفيها إبراهيم عيسى ولا يورد لأحدها ذكرًا، هى التى تجعلنا نستطيع أن نحكم على مدى مصداقية إعادة البناء الذى تم، فربما لم تكن المصادر المختارة محايدة، وربما كانت تميل إلى وجهة نظر خاصة، وهذا ربما يبعدها درجة؛ بل درجات؛ عن الحقيقة التى يدعيها.

إنَّ الحقيقة دقيقة؛ وحقيقة النوع الأدبى الذى يدعى الانتماء إليه أنه يعتمد على التخييل، حتى لو اعتمد على الواقع فى تقديم موضوعه. إنها ليست الحقيقة أبدًا، إنها محاولة لاستعادة الماضى التاريخى من وجهة نظر ساردها، فالفارق بين كتابة التاريخ وكتابة الرواية الأدبية كبير. 

الفرق بين كتابة التاريخ والكتابة الأدبية واضح وساطع منذ أرسطو، فالكتابة التاريخية تدعى الحقيقة المطلقة، لكنها تقدم لنا الحقيقة الفردية أو الحقيقة من وجهة نظر منتجها «كاتبها»، وهى بالضرورة ليست الحقيقة، كما يدعى النص الموازى لنص «كل الشهور يوليو» فى الكلمة التى تحتل الغلاف الخلفى «إبراهيم عيسى فى روايته (كل الشهور يوليو) يُعيد بناء الحقيقة من بين ركام الأكاذيب وزحام الأسرار، وينقذ التاريخ من العواطف»، فهل نحن أمام كتابة تاريخية يُقدمها صحفى لامع، أم نحن أمام رواية لها تقاليدها الفنية وأساليبها وحيلها؟!

لقد قدَّم «ترومان كابوتى» عام ١٩٦٦ رواية غير خيالية تدعى إعادة بناء تاريخ جريمة، ووصف النقاد هذه الرواية بأنها «الصحافة الجديدة»، وعرضوا بالنقد التكنيكات الأسلوبية التى استُخدمت فى تحرير هذا اللون، وهى ذاتها التكنيكات التى اعتمد عليها «عيسى» فى تحرير نصه «كل الشهور يوليو»، فهل نحن أمام «صحافة جديدة» أم رواية أدبية؟!.

إنَّ الكتابة السردية الأدبية تعبر عن نسبية الحقيقة، وهذه هى الإشكالية الأولى التى يسقط فيها نص «كل الشهور يوليو» للصحفى إبراهيم عيسى، إذ يزين نصه بنوع يعبر عن الحقيقة النسبية، بينما يدعى «عيسى» امتلاك الحقيقة المطلقة عبر نصوصه الموازية، سواء تلك التى تنتمى إلى المؤلف أو إلى الناشر.

إن الكتابة التاريخية ببساطة هى محاولة التمثيل التاريخى للماضى، سواء كان هذا الماضى بعيدًا أم قريبًا، ويمكن تمثيل هذا الماضى التاريخى فى الرواية، ويكون للتخييل هنا دور كبير فى نسج الحبكات وملء الفجوات، لأن فعل التخييل هو الفعل الذى يوجه مسار التخيل- كما يقول جابر عصفور فى كتابه «الصورة الفنية». صحيح أن مسار أحداث القصة التاريخية لا ينتجها خيال المؤرخ أو الروائى، لكنه يعيد بناء المشاهد ويكمل تفاصيلها، لأن التاريخ يصعب السيطرة عليه، لأنه شبكة من المتناقضات أحيانًا، فيقوم كل من المؤرخ والروائى- على حدة- فى عمله بتوجيه الخطاب «المعنى»، وهو القصدية من السرد، لماذا يسرد هذه الأحداث؟ إنه يقوم باختيار اللحظة/ اللحظات التاريخية التى يقوم بسردها، إذن هو ينتج خطابًا «معنى»، لذلك لا يجوز له مطلقًا أن يتحدث عن نصه بمنطق أنه الحقيقة، لأنها دقيقة، وإنما عليه أن يتحدث عن لـ«مصلحة مَنْ؟». إن «المعنى» ليس معطى واحدًا كليًا ثابتًا، بل إنّ هناك معانى، فكل نص- وفقًا لـ«ريتشاردز»- يحتوى على أربعة أنواع من المعنى؛ الأول هو المفهوم، أى حالة الأمور والموضوعات التى يحتويها النص، الثانى هو الشعور الذى يغذيه المؤلف جهة المحتوى، الثالث الأسلوب معتمد على النبرة التى يخاطب منها المؤلف قراءه. والرابع- والأخير- هو القصد، أى الأثر الذى يقصده المؤلف من سرد ما يسرد من أحداث ويريد أن يحققه فى نفوس القراء. 

إن نص «كل الشهور يوليو» يبدأ من ليلة الثالث والعشرين من يوليو، حيث تحرك الضباط الأحرار للقيام بثورة الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢، وهى الثورة التى يصفها- السارد- وكل شخوص النص بأنها «انقلاب»، لا يخطئ أحدهم ويصفها بأنها حركة أو ثورة، بدءًا من «جمال عبدالناصر»- نفسه- وكل أعضاء مجلس قيادة الثورة، مرورًا بكل رجال التيارات السياسية والصحفيين والملك ورجال الملك والأمريكان، لا أحد يستطيع مخالفة هيمنة المؤلف على المعنى أو استخدام لفظ يناقض ما يريد أن يؤكده الكاتب على مدار ما يربو على الستمائة صفحة.

إن الفن الروائى يعتمد على الحوارية، مبدأ الحوارية الذى دشنه «باختين»، وهى تقتضى ببساطة تحاور اللغات «لغات الشخوص»، حيث يقف خلف كل لغة بناء ثقافى وطبقى ومعرفى يجعل من كل شخص يتحدث لغة مختلفة فى قاموسها وبنائها ورؤيتها. فى «كل الشخوص يوليو» كل الشخوص تتحدث نفس اللغة، وتستخدم نفس المفردات، ونفس البناء الأسلوبى. إنها لغة واحدة يضعها المؤلف على لسان كل شخوصه، بما يبعد نص «كل الشهور يوليو» عن التقاليد الفنية البسيطة المتعارف عليها وتميزه عن غيره من الأنواع الأدبية أو الفنية. إن اختلاف الشخوص واختلاف رؤيتها هو ما يصنع الصراع الذى هو الوحدة البنائية الأساسية للحبكة، فأين الصراع فى ذلك النص الذى يتفق كل شخوصه- من الملك إلى جمال عبدالناصر- على أن ثورة يوليو كانت انقلابًا؟!.

يغيب الصراع تمامًا عن السرد فى نص «كل الشهور يوليو»، فالجميع تعاونوا على إنتاج ثورة يوليو- انقلاب يوليو كما يريد «عيسى» أن يثبت- بداية من نجاح الخطة الفاشلة للثورة التى وضعها عبدالناصر ومجموعة الضباط، مرورًا بمجموعة العوامل والظروف التى ساعدت الخطة الفاشلة على النجاح، انتهاءً بالملك الرعديد المستسلم الذى ختم ووقع دون مقاومة على نجاح الخطة الفاشلة، ثم غادر الديار المصرية بهدوء. 

تغيب كذلك الشخصيات، إنها مجرد أسماء تحمل أفكار كاتبها عنها باعتبارها شخصيات تاريخية تم بعثها من الماضى، لكنها خرجت علينا كشخصيات ورقية بلا روح، بلا نبض، بلا لحم ودم، لتؤكد لنا أمرًا واحدًا؛ وهو أن يوليو كانت انقلابًا، وأن هذه الثورة التى أثرت وغيرت شكل المنطقة الإقليمية كانت انقلابًا، وكل الشهور يوليو، إذن كل الثورات انقلابات؟!. 

يغيب البُعد الجمالى كذلك عن نص «كل الشهور يوليو»، فلا تجد شخصية تتطور، أو حكاية تنمو وتتشابك خطوطها الدرامية لتحصل متعة تشويقية، ولا اللغة المستخدمة أدبية، بمعنى أنها تعبر عن انحيازات الشخصية الثقافية والاجتماعية، لأنها تتشابه تمامًا مع لغة غيرها من الشخوص، كما أنك لا تجد بناءً سرديًا داخل النص يمكن أن تتأمل معماره، إنه يقوم بسرد تتابعى للأحداث منذ ليلة الثالث والعشرين من يوليو، وما تلا ذلك من أحداث انتقاها واختارها فقط لتؤكد أن ثمة خطة فاشلة نجحت لانقلاب عسكرى. ليس ثمة رابط درامى يمكن أن يمثل حبكة داخل النص، سوى التتابع الزمنى الخطى للأحداث. إن للرواية التاريخية جمالياتها، حتى لو تغيرت من سياق زمانى ومكانى إلى سياقٍ آخر، فإن الجماليات تتحرك، فهى ليست ثوابت وجودية، لكن حركتها ترتبط باستيعاب التقاليد الفنية للنوع الأدبى.

الرواية التاريخية ليست حديثة، فهى تعود فى نشأتها إلى القرن التاسع عشر، وهناك من يعيد نشأتها لأبعد من ذلك، والرواية التاريخية تقوم بتقديم فهم أو تفسير أو تبرير لهذه الحادثة التاريخية، من خلال إعادة بنائها، فأصبح الاتجاه إلى الرواية التاريخية من قبل الكاتب هو اتجاه واعٍ به قصديته، وإلى جوار الرواية التاريخية ظهرت روايات تاريخية زائفة- كما أوضح «جورج لوكاش» ذلك فى كتابه «الرواية التاريخية». 

فى الرواية التاريخية الزائفة نجد المظاهر الخارجية حاضرة وبارزة من حيث وصف الأماكن وبناء الديكورات والملابس التى تناسب اللحظة التاريخية المزعوم إعادة بنائها، ونجد الأحداث تطغى على الشخوص، فتكون للأحداث الصدارة، ولا نعرف عن الشخوص سوى القليل مثل أسمائها وأفكارها الجاهزة التى يمكن رصدها من أى كتاب تاريخى، دون أن نتعرف على حقيقة مشاعرها الإنسانية، دون أن تتطور الشخصية وتنمو، وتتفاعل مع الأحداث التى تمر بها وتتعرض لها، دون أن نتعرف على كيف ترى الشخصية العالم من حولها، سواء أسرتها أو جيرانها وأصدقاءها، دون أن نتعرف على منظومة القيم التى تتحكم فى سلوك الشخصية وحركتها داخل سياق الأحداث التاريخية المسرودة، بما يحقق غاية السرد من فهم وتفسير وتبرير، فتكون إعادة البناء حقيقية، وتكون الرواية التاريخية، رواية تاريخية غير زائفة تتخذ من أحداث التاريخ والديكورات والملابس مظهرًا خادعًا لتوهم قارئها أنها تاريخية، بينما هى تقدم له سمومها عبر ما تنتجه من معانٍ.