رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليست معركة.. وليسوا فرسانًا

أحزننى اهتمام الإعلام المبالغ فيه بالتلاسن الذى تم بين رجل الأعمال نجيب ساويرس والفنان هانى شاكر، نقيب المهن الموسيقية، على خلفية عدم التصريح لـ١٩ من مغنى المهرجانات بالغناء، شعرت بأننا أمام معركة مصيرية، الطرف الأول يمتلك نفوذًا بثروته وبحرصه على التعليق والاشتباك فى معارك يفترض أنه أكبر منها، كأن يدافع عن ممثل «اتجه للغناء أيضًا» يرتكب أخطاءً فادحة مستفزة، لا لشىء إلا لأنه يحبه، الطرف الثانى يعتقد أنه يمثل السلطة التى من حقها المنع والمنح، وهو يعرف أنه لا تستطيع قوة أن تمنع أحدًا من الغناء، لم يناقش أحد المشكلة وكيف وصلنا إلى هذا العبث وإلى شغل الناس بقضية يمكن التعامل معها بأكثر من طريقة، ليس من بينها رغبة كل طرف التقليل من شأن الآخر، لكى يثبت لمريديه أنه يدافع عن هدف نبيل، طوال تاريخنا مع الغناء يتقبل الناس التنوع الذى ميز المصريين عن غيرهم.

منذ نهاية القرن التاسع عشر وصنّاع النغم يخوضون معركة التحديث، نجح جيل محمد عثمان وعبده الحامولى فى إزاحة الطربوش التركى عن موسيقانا، وواصل جيل كامل الخلعى وداود حسنى المهمة بنجاح كبير، ثم جاءت ثورة ١٩١٩، مع جيل عظيم صاغ موسيقى تعبر عن المصريين وهم فى طريقهم إلى المستقبل، فظهر جيل ضم سيد درويش ومحمد القصبجى وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطى وعشرات غيرهم، هؤلاء هم من حددوا شكل الموسيقى المصرية التى أضافت لها الأجيال التالية الكثير بعد أن هضمت منجز الأساتذة، لكل ملحن طريقته فى التعبير، ولكنهم جميعًا صنعوا مرجعية لذائقة المصريين والعرب إذا تحدثنا عن الغناء، وفى الوقت نفسه كانت للمصريين روافد أخرى يعبرون بها عن أشواقهم، فالغناء الشعبى لم يكن فى خصومة مع الغناء الرسمى «إذا جاز التعبير»، فأبناء الأحياء الشعبية الذين يطربون لمحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وليلى مراد وعباس البليدى، يطربون أيضًا لعبده الدمرداش ومدرسته التى ظلت موجودة وكان أحمد عدوية أنبغ تلاميذها، ويوجد أيضًا الصييت والمداح، وكلها روافد تؤكد على الغنى الذى تتميز به المحروسة، كلنا يعرف أن النهر الرئيسى للغناء الذى يعتبر هانى شاكر مسئولًا عنه تعرض لانتكاسة كبيرة مع هزيمة ١٩٦٧، لأن شيئًا فى الوجدان أصابه عطب شديد، صحيح أن انتصار أكتوبر العظيم نجح فى خلق حالة جميلة، ولكن النهر الرئيسى لم يعد كما كان، وهذا لم يحدث مع الغناء فقط ولكنه حدث مع فن تلاوة القرآن ومع المسرح والسينما، ولكن حيوية المجتمع وحاجة الناس للغناء أنتجت تجارب عبرت عن الفترات التاريخية اللاحقة، ولكن ما أنتج فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات لا يزال هو الكنز الحقيقى الذى نغرف منه إذا احتجنا إلى غناء يحترم حاجتنا للغناء، قديمًا كانت المدارس الحكومية العظيمة حريصة على تربية التلاميذ موسيقيًا، وكانت الإذاعة تستثمر فى الغناء، وكانت هناك رغبة حقيقية فى الارتقاء بالذوق العام، تخلت الدولة منذ أكثر من أربعين عامًا عن دورها فى هذا المجال، وتركوا الساحة للمنتج غير المصرى الذى احتكر أجمل ما عندك من أصوات وموسيقيين، وللمغامرين الذى لا يملكون الوعى الكافى لعمل منجز جديد، فظهر ما يسمى «غناء المهرجانات»، وأنا لا أدينه، لعدة أسباب، أهمها من حق كل واحد أن يعبر عن نفسه بالطريقة التى يراها، ثانيًا أن هذا الغناء هو نوع من الاحتجاج على تهميش نوع من الشباب قليل الثقافة ولم يتعلم جيدًا، ونظر إليه المجتمع من أعلى باعتباره عشوائيًا جاء من مناطق تفتقر الخدمات الأساسية، وكانت الدولة تعتبره إلى وقت قريب عبئًا وخطرًا على المجتمع، موسيقى هؤلاء موسيقى عصبية، تخاطب جسد المتلقى قبل وجدانه، ولكنها فى النهاية تعبر بشكل جلى عن الخلل الذى أصاب الوجدان، وهم أحرار طالما لم تنتج لهم الدولة من أموال دافعى الضرائب، ولم تروج لهم فى القنوات والإذاعات التى تمتلكها، ودراسة هذه الظاهرة تحتاج إلى علماء فى علم النفس والاجتماع، أكثر من حاجتها إلى نجيب ساويرس وهانى شاكر وأمثالهما.. من الذين لا يوجد عندهم الوقت للإصغاء إلى أحزان الناس الذين يعيشون على الهامش.