رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليوم العالمى للفلسفة

 

من علامات الانحطاط الأخلاقى، والتراجع الفكرى المخجل، والجهل الممتزج بأمراض نفسية، وعُقد حضارية، وسيادة ثقافة البذاءات، والألفاظ المهينة لمنْ يطلقها، والزعيق البائش قبيح المحتوى ثقيل الدم- هو ما نراه ونسمعه، على مواقع التواصل الاجتماعى، وقنوات اليوتيوب. 

أنا أقاطع هذه الأشياء، هى التى «تطلع» فى وجهى، بنفاياتها. منتشرة كالذباب والناموس والحشرات، وباء أكثر شراسة من كورونا، سموم أشد خطورة من الزرنيخ وسيانيد البوتاسيوم ومذيبات التجمد لزيوت السيارات. 

كل واحد ملوش شغلة، وكل واحدة عاطلة من العمل والمواهب، تعمل قناة على اليوتيوب، تستعرض أمراضها، وجهلها المدقع بأساسيات الفكر والحياة، واضطرابات الطفولة التى تحولت إلى متفجرات، موجهة إلينا.

قنوات تلعب على الكبت الفكرى والجنسى، تثير العواطف العنصرية، وتوقظ الأحقاد، وتشعل الغضب والتوتر، والإحباطات. هذا غير أنها ترسخ من اعتماد البذاءات والزعيق، والإرهاب الفكرى والثقافى والدينى، كأسس لطرح الانتقاد والاختلاف. 

لازم طبعًا تكون المشاهدات عالية، وإعلانات متعددة، تعوض عدم العمل المنتج المفيد المثمر. داعبتنى هذه الأفكار، وأنا أكتب مقالى الجديد، عن اليوم العالمى للفلسفة، ويحتفل به الخميس الثالث من شهر نوفمبر من كل عام، وهو يوافق ١٨ نوفمبر هذا العام. 

مافيش أى مواقع تواصل اجتماعى، ولا قناة على اليوتيوب، طرحت هذا الأمر. عشرات، بل مئات من البرامج، والقيل والقال والفيديوهات، فى مصر والعالم العربى، تركزت بذاءاتها واستباحتها وأمراضها وانحطاطها الأخلاقى والحضارى، وزعيقها وجعيرها، وقبح كلامها، وثقل دمها، على «فساتين الجونة». بل طالب البعض، ومنهم فنانون وفنانات وشخصيات عامة ومشايخ، بإيقاف مهرجان الجونة السينمائى، ومحاكمته بجميع أطرافه، والذى أسموه «فضيحة» و«عارًا»، و«ضربًا» للإسلام والعادات والتقاليد والفن والفضيلة والوطنية. الكل يزايد على الإسلام والعادات والتقاليد والفضيلة والوطنية والفن!!! فى وسط هذا الحشد البذىء، الفقير فكرًا وثقافة وتهذيبًا، لا نجد واحدًا أو واحدة يكتب شيئًا عن اليوم العالمى للفلسفة. شىء بليغ، وفاضح، وكاشف، وله دلالات تستحق الشفقة. أرجع وأقول، هذا متوقع. 

إن الفلسفة، ليس لها مكان، حتى بين الطبقة «المثقفة» التى تتحدث عن التنوير، والتغيير. وكذلك فى وسائل الإعلام، مقروءة، مسموعة، مرئية، لا نجد ذكرًا لأى احتفاء بالفلسفة، فى يومها العالمى، ولا فى أى يوم على الإطلاق. 

وهذا أمر محزن، يثير الشجون. فكيف ننسى، أو نتجاهل، فضل الفلسفة على الفكر الإنسانى، وكيف أنها أساس أى تقدم حضارى، للإنسان الفرد، أو للمجتمعات والدول؟. كم أستمتع وأنا أتكلم، أو وأنا أكتب عن الفلسفة. هى ملتصقة بى، طوال أيام العام، وليس فقط الخميس الثالث من نوفمبر. كانت ولا سواها، السلوى والعزاء مع ابتلاءات الحياة، ودقات قلبى المسكونة بألف عفريت، وطرقات روحى المحتلة بالأشباح، وخيالات متآمرة على هدوئى وسكينتى واطمئنانى.

أحاول اليوم، فى هذه اللحظة، أن أعترف لها بنزفى المستمر، الذى لن يتوقف لرحيل أمى «نوال». لماذا لا أحكى لها عن كل شىء يؤرقنى، يسحب سجادة الهناء والراحة من تحت قدمى، دون أن يتأنى ليعرف كم أنا الآن، أحتاج الراحة والأمان والطمأنينة والسكينة، ألم تكن هى الطبيبة المداوية دائمًا، حتى قبل أن أشكو وأبكى؟. 

«الفلسفة» صديقتى الحميمة الوفية، الوحيدة التى أسمح لها بالنوم بجانبى على فراش نومى المقدس، تحتضننى، تغنى لى، تمنحنى عصارة تاريخها وإيمانها، تعطينى حقنة حكمتها الأخيرة. «الفلسفة» صانعة المعجزات فى النفس البشرية، التى ما زالت عند الغالبية، ترادف كثرة الكلام المعقد المتضخم المتغطرس، الذى لا طائل من ورائه، إلا إهدار الوقت والتقاعس عن الفعل.

كنت متأكدة أنها مثل الأشياء الجميلة الراقية، سوف تمر مرور المطر على سحابات الصيف، لن يتذكرها أحد. حتى منْ يتأسفون على أحوالنا، التى تحتاج إلى وقت طويل، لكى تفيق وينعدل مسارها، نسوا موعدها، وانشغلوا بتبادل الاتهامات، وتكرار الأخطاء والتناقضات الفكرية. 

الفلسفة، تلك الساحرة، الواعية، الناضجة، المفكرة، الحكيمة، التى تفتح لنا أبواب حرية الفكر وجرأة الأسئلة، ولا نفتح لها بابًا واحدًا صغيرًا، أو نافذة واحدة ضيقة، لكى تتنفس على أرضنا.

لست وحدى التى أدين للفلسفة بكل المنح والامتيازات التى أنعم بها، ولولاها كنت الآن «ريشة فى مهب الريح» لا جذور لها تعصف بها الحياة كما تشاء وترميها أينما تريد.بل أقول إن البشرية كلها، إذا كانت قد حققت شيئًا «مفيدًا»، «نافعًا»، «راقيًا»، «عادلًا»، «مبدعًا»، «ممتعًا» للإنسان، فهو كلها بفضل الفلسفة، ومولود من رحمها المعطاء.

هناك خطأ شائع، أن الفلسفة رفاهية، وأن فعل التفلسف هامشى غير ضرورى، تقوم به أقلية منعزلة، مستريحة. تمامًا مثل الخطأ الشائع، الذى يروج لمقولة أن الذكورية تكرم المرأة. لكن التفلسف، شئنا أم أبينا، جزء لا يتجزأ عن الحياة. والفلسفة هى المنارة التى ترشدنا إلى الفهم، وهو ضرورة للتغيير والتقدم والتحرر والسعادة.

إن التفلسف، هو السؤال عن أصل الأشياء، أو كلمة «لماذا». لكل تجربة بُعد فلسفى. بمعنى أن كل تجربة إنسانية تحوى خصوصية إنسان معين فى زمان ومكان محددين. لكنها فى الوقت ذاته تتجاوز ذاتية وخصوصية ذلك الإنسان، لتلمس آفاقًا إنسانية يواجهها البشر فى كل زمان ومكان. ونقصد بهذا معنى الحياة ومصير الوجود والمرض والحزن والموت والتجارب القاسية، التى يمكن أن تفقدنا توازن العقل وطمأنينة الروح والتصالح مع صفعات الزمن.

إن الرغبة المستمرة فى الفهم تجعلنا ندرك أن التجربة، فى حد ذاتها، ليست «مهمة»، أو «تافهة». القضية هى كيفية النظر إلى التجربة. القضية هى كيف نتجاوز ما هو جزئى وشخصى وعابر، إلى ما هو كلى وغير شخصى وغير عابر. إذا كنا نريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياتنا، ومن العالم المتهاوى حولنا، فإنها وحدها «الفلسفة» هى الحل. 

«الفلسفة»، تمنح ولا تفكر فى الأخذ، فى عالم يأخذ كل شىء، ولا يعطى شيئًا، إلا التعاسة وأمراض الجسد والروح، والشراهة لكل الغرائز المتدنية. و«لماذا»، هو السؤال الذى يحرمه، ويجرمه، ويكفره، «الأوصياء» من كل شكل، ولون، منذ بدء الخليقة حتى الآن. هل نطلب من الإنسان الفقير، المظلوم، المقهور، أن «يتفلسف»؟.

إذا كان التفلسف هو التأمل العميق، من أجل الفهم، والمعرفة، فإن الإنسان الفقير، المظلوم، المقهور، يكون أحوج الناس للتفلسف. بمعنى أن يتساءل عن وضعه الخاص. لماذا أنا فقير؟. لماذا أنا مظلوم؟. ولماذا أنا مقهور؟. وبالتالى، يستطيع أن يرتد الى أصل الأشياء. فيتعمق التساؤل، ويمتد إلى الإنسانية بأكملها، فيصبح لماذا الفقر ولماذا القهر فى العالم. 

كل شىء «فلسفة»، و«الفلسفة» هى كل شىء. تحية الصباح تحتاج إلى فلسفة، إعداد فنجان قهوة يحتاج إلى فلسفة، والصمت فلسفة بليغة، السخرية فلسفة عميقة كبرى، الشهيق والزفير، فلسفة. وحتى إذا أردنا هجر الفلسفة، ودفنها بالحياة، والاستغناء عنها، فهذا أيضًا يحتاج إلى فلسفة.