رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نحو فهم أعمق للمرأة

لفظ العنوسة هو وصف الحالة الاجتماعية الذى أطلقه المجتمع على الفتاة التى لم يسبق لها الزواج بصرف النظر عن الأسباب سواء أكان عزوفًا من قِبل الفتاة أو عدم تقدم شاب للزواج منها كما كان ميسرًا لغيرها فى زواج الصالونات أو علاقات العمل أو زمالة التعليم.

لم يطلق المجتمع لقبًا مماثلًا يصف العنوسة على الشاب الأعزب الذى لم يسبق له الزواج، بل خبّرنا قاموس الألقاب المجتمعية عن الأعزب والعزباء، المطلّق والمطلّقة، الأرمل والأرملة، ولكنه فوق كل هذا التعميم، اختص العزباء بوصف إضافى وهو «العانس»، فأصبح حكرًا لوصف فتاة لم تتزوج، ولم يهتم هذا القاموس بتفصيل السببية إن كانت عنوستها عزوفًا إراديًا عن الزواج، أم أنها فرصة لم تكتمل، وبالطبع لا تتوقع أن يكترث المجتمع لمثل هذه التفاصيل.

أرى أن «العنوسة» لفظ مسبة ينطوى على تجاهل السببية فى عدم الزواج من ناحية، وعدم انصياع الفتاة لمطالب مجتمع يسبق إرادة الفتاة فى وجوب الالتحاق بـ«قطار الزواج»، وهى العبارة التى جعلت من العانس فتاة سيئة الحظ، بل مدعاة للشفقة.

دعونا نتحلى بالقليل من الشجاعة لنفهم القراءة الحقيقية لمعنى العنوسة:

١- العانس هى فتاة لم تقنع بما يصلها من طلبات الزواج ورفضت أن تكون المفعول به فى الارتباط لدى تأسيس الشراكة الأسرية.

٢- العانس شخصية انتفى لديها عوز الاحتماء بظل رجل عوضًا عن ظل الحائط كما أوحت لها ثقافة المجتمع.

٣- العانس هى فتاة حطمت وهم الذكورة المرسوم بالقلم فى شكل شارب على وجه الذكر، وأدركت أن الشارب الذكورى ما هو إلا بضع شعرات وهو مكون هرمونى يمكنها إتيان مثله إذا تغاضت عن نمص شفتيها وأدركت أن الرجولة ليست كالذكورة، فبينما الذكورة مكون هرمونى إلا أن الرجولة مكون أخلاقى.

٤- العانس هى من نصّبت نفسها «لجنة اختبار» لتقرر بنفسها من يصلح من الذكور لنيل درجة شريك فى مؤسسة الأسرة.

٥- العانس هى التى لم تقبل بأن تكون فريسة لغريزة الجنس لتقايض بها على عقلها وإرادتها فى قبول ذكر.

٦- العانس هى الناجية من سوق المقايضة على جمالها وأنوثتها بالستر.

٧- العنوسة لا تعنى «مرور القطار»، بل هى حكمة الانتظار من أجل شرف الاختيار.

٨- العانس هى من أحكمت تدقيق الشريك المنتظر ولم تقبل ببعض التنازلات.

المدقق فى القراءات البحثية الصادرة عن مراكز البحوث الاجتماعية ورسائل البحث العلمى من قِبل طلاب الدراسات العليا بالجامعات والمعاهد يجد أن دافعية الطلاق الأكثر شيوعًا تكمن فى انتفاء معايير الاختيار التى يضعها الشاب أو الفتاة فى الطرف الآخر، فأحيانًا تكون الوسامة أو الجمال هو معيار الترجيح، وقد يكون المركز المالى للزوج هو سند الترجيح، وقد يكون عنصر القبلية أو الحسب والنسب هو الأمر الحاسم فى الاختيار.

بيد أن الكثير من الفتيات يضعن شروطًا مغايرة لعناصر الترجيح السابق ذكرها خاصة الفتيات اللائى حظين بدرجات علمية جامعية أو ممن أصبحن عضوات بهيئة التدريس فى الجامعات، فيصبحن أكثر ميلًا لانتظار زميل جامعى فى نفس المسار العلمى مثله أو أعلى منه، وبالطبع قد تتقلص الفرص فى ظل انتظار شخص يتمتع بالمواصفات المرجوة.

فى العقدين الأخيرين، وبعد التشابك الفكرى بين الشعوب عبر التواصل الإلكترونى، تبدلت مفاهيم الشراكة الزوجية وباتت عناصر الاختيار أقرب لما هو متبع فى الغرب مبنية على المقدرة الاقتصادية والتأهيل العلمى للشريك، مما أسهم فى تقليص فرص الزواج خاصة أمام الفتاة المؤهلة دراسيًا التى تحظى بوظيفة مرموقة أو مكانة اجتماعية متميزة.

لا شك أن رصد نتائج الطلاق سواء على أرض الواقع أو عبر الأعمال الدرامية أحدث نوعًا من اليقظة لدى الفتيات والأسر لدى تقييم المتقدم للزواج خشية التأذى من خسائر مماثلة خاصة لدى وجود أطفال بعد الانفصال.

تتباين أسباب العنوسة بين المجتمعات الشرقية، ففى مصر تستحوذ الطبقية على نصيب الأسد من جملة الأسباب المؤدية للعنوسة، ويتشارك معها بالطبع المستوى التعليمى الذى تضعه الفتاة كقيد لنفسها، أما فى المجتمعات الأخرى كبعض دول الخليج غالبًا ما تكون القبلية أو السند العشائرى هو القيد الأساسى.

المكون النفسى للعانس:

على عكس ما كان سائدًا فى أفهام الناس فى الماضى من أن العانس تكمل حياتها بندب الحظ والتحسر فى صمت على ضياع الفرصة، تبين أن العزوف الاختيارى عن الزواج من قِبل الفتاة غالبًا ما يرتبط بقوة الشخصية وامتلاك الفتاة الكثير من عناصر القوة والحسم والتفكير الناقد والتفوق الإدراكى، لذا تجد أن هذه الفتاة يصعب استمالتها عاطفيًا أو مساومتها على مشاعر لقاء التنازل عن الشروط التى ترصدها فى شريك المستقبل.

هذه الفتاة التى أدركت معنى الاستقلالية وأوجدت قيودًا للتدخل فى إرادتها غالبًا ما تتمتع باستقلال مالى ينفى عنها وصف العوز المؤثر فى اختيارها شريك المستقبل. 

ويتبقى السؤال الجوهرى فى قراءة معنى العنوسة وهو: هل العنوسة اختيار صائب عندما تقرر الفتاة اختياريًا العزوف عن الزواج؟ فى الحقيقة، تتسابق لغة العقل مع المنطق لتؤكدا سلامة القرار عندما تنتفى أو تقل نقاط الترجيح فى اختيار شريك المستقبل.

إذن العنوسة الاختيارية هى من ضروب الحكمة عندما يقررها المنطق الرياضى، فالبقاء عزباء أفضل مائة مرة من العويل فى ساحات التقاضى بحثًا عن نفقة مطلقة أو مصروف للأطفال.