رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإرادة الفردية والقضايا العامة

فى حياة كل منّا حلم يسعى لتحقيقه، لكن المأساة أن معظمنا لا يحقق أحلامه أيًا كانت، سواء أكانت طموحًا إلى ثروة، أو إلى مجد، أو إلى تأثير فكرى.. معظمنا يعيش فى المسافة ما بين حلمه وتجسيد ذلك الحلم، مسافة يتمدد فيها عجز الإنسان عن استجماع الإرادة. 

يشهد تاريخ الأدب والفن بأنه كثيرًا ما توافرت للبعض كل عناصر النجاح ما عدا مزيج الشغف والتصميم السحرى المسمى «إرادة»، فلا يتمكن المرء من التقدم خطوة للأمام! لهذا كتب الروائى العبقرى «بلزاك» يقول: «ما من موهبة عظيمة من دون إرادة عظيمة»، وهو قول لا ينطبق على الأدباء والفنانين فحسب بل على كل من يتطلع فى الحياة الاعتيادية إلى تجسيد أحلامه أينما كان مجالها. 

ومعظم الخيبات فى حياتنا تعود إلى غياب الإرادة، ومعظم المعجزات ترجع إلى حضورها.. ويكفى القول إن كل الكبار العظام الذين تركوا أثرًا ظاهرًا فى الفن والسياسة والعلوم كانوا يتمتعون بإرادة هائلة مكّنتهم من الاشتباك بالقضايا العامة، وتغيير مجرى الأحداث.. ويصطدم كل منّا فى حياته اليومية بتلك الحقيقة، حين لا يستطيع إجبار نفسه على النوم مبكرًا، أو الالتزام بجدول أعمال وضعه مسبقًا، أو العكوف على عمل لا بد من إنجازه، لا لشىء إلا لضعف إرادته.. وعندما بدأ نجيب محفوظ رحلة الكتابة رافقه منذ البداية كاتب آخر هو عادل كامل، لامع الموهبة إلى حدٍ مذهل، لكنه لم يستجمع إرادته للاستمرار، فأقلع عن الأدب وطواه النسيان. 

ويعرف الأدب العالمى نماذج كثيرة لانكسار الإرادة، أشهرها الشاعر الفرنسى آرثر رامبو، رائد المدرسة الرمزية، الذى أبدع أعظم الشعر حتى سن العشرين، ثم توقف تمامًا ولم تكن تعوزه الموهبة الهائلة ولا القدرة على التأثير، لكنه لم يستطع أن يشحذ إرادته الفردية ليظل مشتبكًا على ضوء الموهبة بالقضايا العامة، مما يذكر بعبارة ليف تولستوى: «الجميع يفكر فى تغيير العالم، لكن لا أحد يفكر فى تغيير نفسه»، ومن دون تلك الإرادة الفردية لم يكن بوسع نجيب محفوظ أن يصبح مؤثرًا وفاعلًا فى القضايا العامة، وانظر إليه يقول: «كنت أجلس على مكتبى عندما تدق الساعة الرابعة بعد الظهر وأبدأ بالكتابة لمدة ثلاث ساعات، ثم تليها ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة»، هذا النظام الصارم اليومى لا يحتاج إلى موهبة، يحتاج إلى إرادة. 

وفى تاريخ مصر الفنى أسماء عجيبة لمعت ثم انطفأت، رغم أنه قد توافرت لها كل عناصر النجاح، منها على سبيل المثال هند علام، المطربة، شقيقة هدى سلطان والموسيقار الكبير محمد فوزى، بدأت مشوارها الفنى عام ١٩٥٢ وأنهته بعد عشر سنوات، ما السبب؟ لا شىء سوى غياب إرادة الاستمرار وقوة التصميم. 

وفى يناير ١٩٥١ ظهر إعلان فيلم «ابن الحلال»، وفيه تأتى أسماء النجوم الكبار بالبنط الضخم بالترتيب التالى: تحية كاريوكا، محمود المليجى، محسن سرحان، وفى نهاية الإعلان ببنط صغير يرد اسم فاتن حمامة، التى استطاعت بإرادتها أن تقفز إلى القمة وتصبح سيدة السينما العربية! بذلك العنصر الحاسم وحده يمكن للمرء أن يحقق أحلامه، أيًا أكانت، ومن دون ذلك لن يفعل شيئًا مهما كانت موهبته وقدراته التى حبته بها الطبيعة. 

وبذلك الصدد يقول الشاعر الروسى العظيم ليرمنتوف: «ما الذى يمكن أن يكون عائقًا أمام إرادة الإنسان الصلبة؟ فى الإرادة تكمن الروح الإنسانية كلها.. إن كلمة أريد تعنى القدرة على الفرح والكراهية والحب والأسف والحياة.. إن الإرادة هى القوة الأخلاقية لكل كائن حى، والطموح الحر لخلق أو تدمير الأشياء، وهى القوة الإبداعية التى تصنع المعجزات من لا شىء»، وعلى كل منّا أن يصنع معجزته، هذا بين يديه، وفى قدرته واستطاعته، وحينئذٍ سيحقق أحلامه إن كانت صغيرة أو كانت تمتد إلى حد تغيير العالم.