رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وطنى وعملية «غسيل» حضارة عاجلة

من التساؤلات التى تعشق القرب مِنى كما أوفى الأصدقاء وأكثرهم حميمية، هل الوطن الجميل الذى تناجيه روحى ومن أجله أبذل حياتى دون ندم أو تردد "حقيقة"؟ أم "حلم" يحرمني متعة الغِناء مع عبدالوهاب: "حب الوطن فرض عليا أفديه بروحى وعنيا"؟.
ما هو هذا الوطن الذى أناجيه وأتمناه أن يكون عنوانًا يصف الأرض منها جئت وإليها أعود؟
أهو الوطن الرحب ذو الأذن الموسيقية الراقية الذى لا يجد تناقضًا بين الاستماع إلى موسيقى "القصبجى" وموسيقى "موتسارت"؟
يتذوق "أسمهان" و"فايزة" مثلما يتذوق "اديث بياف" و"شيرلى باسى"؟ يصفق لصوت "فريد" كما يفعل مع صوت "فرانك سيناترا"؟
أهو الوطن المؤمن بضرورة تقليص الفوارق الطبقية بين الناس؟ أيكون هو الوطن الذى يصنع أرغفة الثقافة والفن والأدب والسينما والمسرح والغِناء والصحافة بوفرة وجودة رغيف الخبز؟ أو ربما يكون هو الوطن  الذى ينسف دون رجعة  ضوضاء مكبرات الصوت الشرسة المتنمرة المنتهكة الخصوصية والهدوء وحُرمة المسكن المتسببة فى التلوث السمعى والحضارى؟ الجاهلة بشىء بديهى اسمه "الحساسية للآخرين"؟.
ما هو الوطن الساكن على وسادتى يشاركنى خيالاتى وأحلامى، يصد عنى البرد والكوابيس؟ أيمكن أن يكون الوطن اليقظ الذى يقطع الطريق على وسطاء وأوصياء يفسدون العلاقة بيننا وبين الله وبين كل شىء يشعرنا بالجمال الكامن فينا والقوة الملقحة ذاتيًا فى نفوسنا؟
أهو الوطن الذى يتكلم عن الحرية بالوقار والهيبة والانبهار الذى يتكلم به عن لاعبى الكرة ونجمات السينما وملكات جمال الحجاب؟ أم تراه الوطن الذى يكفل خدمة طبية فاخرة لمنْ لا يملك إلا اعتلال جسمه وقوت يومه؟ الوطن الذى يحترم حرية الاعتقاد وحرية الإبداع وحرية التعبير وحرية الصمت وحرية العنوسة والعزوبية وعدم إنجاب الأطفال "أحباب الله"؟
هل الوطن الحقيقة وليس الأكذوبة، وطن آمن من الإرهاب الدينى والإرهاب الثقافى والإرهاب الفكرى؟ هل هو وطن لا يعرف التجريح الشخصى والشتائم والبذاءات والمزايدات الفجة باسم الوطنية والفضيلة والسلف الصالح؟
أم لأنه يأكل من عرق جبينه وينتج من دوران ماكيناته المكتوب عليها بعزة وفخر "صُنع فى مصر" وطن يجرم قمع النساء وشرب الأطفال من ترع البلهارسيا؟ وتنتشر فيه مقاهى البكاء والحزن قدر انتشار مقاهى المرح ولعب الشطرنج وأمسيات المرح؟
أهو الوطن الذى ينتصر لوسائل نقل عام تحترم إنسانية الناس بسلام وأمان تنقلهم من مكان لآخر دون حوادث دون أن تنقل لهم أمراض تسرب العادم؟ وطن توجد فيه العدالة داخل قلوب البشر قبل أن توجد فى كتب القانون وعند منصات القضاء لا يستخدم مستحضرات التجميل؛ لأنه يعشق ويزهو بـ"الجمال الطبيعى".
وطن يصادق حماقاتى ينتشى وأنا أغنى، يتمايل وأنا أرقص.. وطن يحتمل غضبى وانتقاداتى، تسعده شكوكى وفى آخر كل شهر يعطينى مرتبًا سخيًا على مشاكساتى وتمردى.
لسبب بسيط أنه وطن كبير واثق فى نفسه وفى حضارته الثابتة فى عمق الأرض، وهو يعلم من التاريخ أن الأوطان تزدهر بالتمرد والتساؤل وأن الوطنية المخلصة تبدأ وتنتهى بالاحتجاج،  بل إنه يعتبر الصوت المتمرد من ضرورات الصحة الوطنية والعافية الحضارية وضرورة لا غنى عنها للانتصار والتألق.
إنى على يقين أن "مصر" وطنى الذى أنجبنى وفى ترابه الحنون سوف أدفن كل هذه الصفات الجميلة التى تناجى أحلامى، سنوات طويلة تحالفت الأفاعى السامة استغلت نقاط الضعف وأنين الفقر وسياسات ترسخ الذكورية والتفرقة الطبقية والانفتاح الاستهلاكى لصالح الأثرياء الكبار والانغلاق الفكرى والثقافى والدينى وبثت سمومها فى وجوهنا ومصيرنا، ولكن هناك دائمًا كلمة "لكن" مع مصر.
فقد لملمت مصر نقاط قوتها وإيجابياتها وقفزت برشاقة فوق الأسلاك الشائكة والحواجز المنيعة.
جريت "مصر" وهى تحمل جسدها الذى سممته الأفاعى المتحالفة إلى أقرب مستشفى وأجرت عملية "غسيل" حضارة عاجلة مصر باقية بحلوها ومرها، مزروعة فى أرض الحضارة الخصبة المتفلسفة لا تفقد البوصلة لا تستسلم لليأس والنكسات والشائعات.
من بستان قصائدى
أسرار كثيرة "للعبودية" تستعصى على الفهم
أما هى سر واحد لها مفضوح على الملأ
وهو أن نتنفسها نغنيها نكتبها نرقصها
إنها "الحرية"