رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرفية المخ وعبقرية العقل

 

بداية، دعونا نفرق بين المخ والعقل، فالمخ عضو بينما العقل وظيفة هذا العضو، ولكن لا يجب إغفال أن للمخ وظائف أخرى عديدة بعيدًا عن الوظائف الإدراكية والذهنية.

يماثل المكون التشريحى والوظيفى للمخ معالج الحاسوب، كونه مجموعة من المراكز المتخصصة بتنظيم الوظائف الحيوية، مثل مركز تنظيم ضربات القلب ومركز تنظيم عدد مرات التنفس ومركز الجوع ومركز الشبع وغيرها، وبذات الوقت، يختص المخ بخاصية الربط داخليًا بين هذه المراكز من ناحية والربط مع أجزاء وأطراف الجسم البعيدة من ناحية أخرى.

المخ فى حقيقته هو مجموعة من الخلايا العصبية مكدسة فى القشرة الخارجية، ولكل خلية امتداد عصبى على شكل شعيرة هى جزء من الخلية، لكنها طويلة بما يكفى للسفر لنهاية الجسم لتجمع معلومات عن الألم بأصابع القدم. يولد الإنسان بحصة ثابتة العدد من خلايا المخ، وهو قرابة ٨٦ بليون خلية عصبية، والملاحظ أن نمو أعضاء وأنسجة الجسم بعد الميلاد يستمر فى التزايد العددى والحجم إلا خلايا المخ التى لا يتزايد عددها، بل لا يمكن تعويض ما يتأذى أو يتلف منها على غرار ما يحدث لمعظم أنسجة الجسم الأخرى.

عودة للعقل، وهو وظيفة عوضًا عن كونه عضوًا، ووظيفة العقل هذه مركبة، تشمل الخصائص الإدراكية والذهنية، مثل التفكير والذاكرة والتحليل والتخيل والاستنتاج والتفاعل والانفعال، ويقوم العقل بنقل قراراته أو قل ردود الأفعال التى يستقر عليها إلى المخ القادر على ترجمة القرار إلى ردة فعل قابلة للتحقيق، فمثلًا لدى تحسس خطورة وجود ثعبان، يقوم العقل بمطابقة صورة الثعبان الذى نقلته العين للمخ، وعندها يستدعى العقل من الرصيد المعرفى معنى الثعبان والخطورة المرتبطة به، وعنها يقرر ردة الفعل، التى غالبًا ما تكون التجنب أو الفرار، ويرسل هذا القرار إلى المخ الذى يقوم بدوره بتكليف عضلات الساقين والساعدين للعدو تمهيدًا للفرار من مسرح الحادث، وبالطبع تتزامن مع هذا القرار مجموعة من القرارات الأخرى التى لا خبرة لك بها، فأنت لا يمكنك حساب التسارع المطلوب فى دقات القلب لضخ المزيد من الدم بشكل استثنائى يخدم عملية الهروب التى تلزمها طاقة حركية عظيمة.

الأمر المذهل أن العقل يؤتى قراراته بمعزل عن إرادتك الواعية، ففى المثال السابق المتعلق بالهروب من الثعبان أنت لا يمكنك التفكير فى حساب مركز الثقل الذى يحول دون تعثرك ووقوعك أثناء الركض والهروب المصحوب بالهلع، فيقوم العقل بتعزيز القدرات الدفاعية فى لمح البصر عن طريق إصدار حزمة من الأوامر للمخ تفى بالغرض، مثل إفراز هرمون «الأدرينالين» المحفز لانقباض القلب واستقواء العضلات وتأجيل الإرواء الدموى للمعدة والأمعاء، مثلًا لهضم الطعام؛ لأن أهمية الهضم هنا مؤجلة وفق مفهوم الأولويات، بل ويتم تجاهل كل رسائل الألم السابقة لبداية الهروب من الثعبان، فتتوقف متابعة آلام الركبة المزمنة، ويتم تجاهل الرغبة فى التبول التى كانت تؤلم المثانة البولية قبل الحدث بثوان، فالبدن كله بات مجندًا لخدمة النجاة من الخطر.

والآن، تعال لنفهم كيف يؤدى العقل وظيفته، وقد تسأل عن ساعات العمل التى يؤدى فيها العقل وظيفته أهى مستمرة أم متقطعة؟ وماذا عن وظائف المخ سواء الخاصة به أو الوظائف التنسيقية مع العقل؟ وهل هى مستمرة أم متقطعة؟

فى الحقيقة تظل وظائف المخ مستمرة وساعات الدوام سارية، سواء كانت ساعات يقظة أو نوم بالنسبة لك، وكل ما هنالك أنك تدرك بعض هذه الوظائف أثناء ساعات اليقظة الخاصة بك، مثل استشعار الجوع بفعل انقباض المعدة، ولكنك قد تغفل أثناء نومك عن الشعور بلدغة بعوضة، وهنا ينوب عنك العقل فى اتخاذ القرار بإزاحة الحشرة. أما فيما يتعلق بالعقل، فوظائفه تتوقف فى ساعات الغفوة والنوم والسبات والغيبوبة، وهى جميعًا تعنى حالات انتفاء اليقظة بصرف النظر عن الأسباب، ولكن هناك بعض الوظائف الذهنية، كالأحلام تظل تعمل، وبعضها يتم تسجيله لاسترداده أثناء ساعات اليقظة التالية، وقد يزول الأثر كليًا أو جزئيًا بعد اليقظة.

عندما يغفو العقل، يوكل إلى المخ وينيبه فى إتيان بعض- وليس كل- الوظائف لحين الاستفاقة أو استعادة النشاط.

وفى المجمل، هناك صنفان من وظائف العقل، يخضع الصنف الأول منها لإدارتك وإرادتك الواعية، مثل التفكير فى دفع فاتورة حان موعدها، وهى تبدأ بالتذكر وتمر بالتفكير فى كيفية إنجاز الأمر وتنتهى بالقرار، أما الصنف الآخر من الوظائف فهو مجموعة الوظائف التلقائية التى لا تخضع للإرادة، مثل اتزان بدنك أثناء السير أو العدو دون تدخل منك فى احتساب مركز الثقل الذى يدخل فى حساباته غير الواعية طول قامتك، ووزنك، وامتلاء معدتك بالسوائل والطعام، وانحناءة عمودك الفقارى وغيرها من الحسابات التى يتعثر عليك إتيانها، سواء لصعوبتها الحسابية أو لعدم معرفتك بها أصلًا. 

هناك وظيفة إضافية متممة لبهجة الحياة يقوم بها العقل ويقدمها لك دون أن يشغلك بها، وهى وظيفة الاستبدال وهى وظيفة غاية فى الملل لن ترغب أبدًا فى القيام بها لو وقعت ضمن تكليفك، وتهدف هذه الوظيفة إلى اسنبدال النواقص فى المشهد البصرى، فربما أنك لم تنتبه إلى أن كلمة استبدال فى السطر السابق تعمدنا كتابتها بخطأ فى حرف النون بدلًا من حرف التاء، وهنا يتصرف العقل ويتدخل بالتصحيح التلقائى نيابة عنك، وطبعًا هناك حدود للتصرف يقرها العقل عند الاستبدال مشروطة بالبديل المعروف لك سلفًا.