رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجديد الخطاب الأدبى

تمر سوق الأدب بحالة كساد ملحوظة تضاعفت بعد الثورة الرقمية وسيادة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، ومن الصعوبة بمكان الآن الحديث عن رواية تخطف الأبصار كما كان الحال مثلًا عند نشر «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوى، أو «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، ولم يبرز بعد قاص بحجم وعظمة يوسف إدريس، ولا شاعر بقامة أمل دنقل. 

ولا شك أن الثورة الرقمية قد غيّرت من ذائقة القراء لكنها ليست المسئول الأول عن الكساد الذى خيّم على سوق الأدب، بحيث أصبح النشر الورقى مجرد إثبات حالة.. وفى تقديرى أن العامل الرئيسى فى ركود الحركة الأدبية هو انقطاع الصلة بين الأدب والمجتمع، مما يجعلنا نستدعى للذاكرة عبارة بريخت: «إذا لم تكن كلماتى تهتم بالناس، فلماذا يهتم الناس بكلماتى؟». 

وفى ذلك الصدد وضع الناقد الفرنسى «تيزفيتان تودوروف» كتابًا فى غاية الأهمية بعنوان «الأدب فى خطر»، ينبّه فيه إلى أن الأدب المعاصر يمر على مستوى العالم بأزمة تنذر بـ«زوال القرّاءة فى الأجل القريب»، والسبب عنده ليس الثورة الرقمية لكن النظرة التى شاعت فلسفيًا وأدبيًا وفصلت العمل الأدبى- بوسائل وطرق متعددة- عن دوره الاجتماعى.. وأهمية ذلك الحديث أنه صادر عن ناقد كبير وقف طوال حياته ضد الأدب الدعائى، والنظرة العقائدية، والواقعية الاشتراكية، بل والماركسية، ومن ثم لا يمكننا أن نتهمه بشىء من ذلك حينما يحدثنا عن «الدور الاجتماعى للأدب». 

ويرى تودوروف أن الخطر الذى يهدد الأدب ويعزله عن القراء هو «الشكلانية» التى تنطلق من أن دور الأدب العناية بالبناء المبتكر وبطرائق توليد النص، وبالأسلوب، والأشكال السردية، والتركيز على التقنية الفنية بكل وسائلها.. المصدر الثانى للخطر الذى يحيق بالأدب هو النظرة الفلسفية العدمية التى ترى أن تغيير العالم والواقع مستحيل، وأن الحقيقة الوحيدة الباقية هى ذات الكاتب الذى تسوقه نرجسيته إلى أن يصف بأدق التفاصيل أدنى انفعالاته وأتفه تجاربه الجنسية وذكرياته الأشد سطحية. وعلاوة على «الشكلانية» و«العدمية» يبرز خطر ثالث أقوى هو ما يسميه تيودوروف نزعة «الأنانة»، أى القول بأن «الأنا الذاتى» هو الكائن الوحيد الموجود! وقد برزت هذه الاتجاهات أقوى ما يكون فى مدارس أدبية مثل «البنيوية»، و«التفكيكية» التى قامت كلها على بتر العلاقة بين الأدب ودوره الاجتماعى، فأصبح العمل الأدبى معروضًا بصفته: «موضوعًا لغويًا مغلقًا مكتفيًا بذاته ومجرد علاقات بين أجزاء العمل الفنى وعناصره». 

إن فصل الأدب والفن عن الدور الاجتماعى والواقع أدى إلى هجرة القراء المتزايدة للأدب، وإلى ركود الحركة الأدبية، وتعود جذور هذا الفصل التعسفى بين الأدب ودوره إلى مطلع القرن العشرين مع الدعوة القائلة بأن هدف الفن الحقيقى: «إبداع الجمال»، وبذلك فلا ينبغى «للعمل الفنى أن يتحدث عن شىء خارج عنه، لا ينبغى أن يتحدث إلا عن نفسه، وكينونته الداخلية، ينبغى أن يصير دالًا بنفسه». 

وبسبب هذه النظرة لم يعد يقرأ الأدب سوى نخبة، بينما تتزايد القطيعة الظاهرة بين الأدب وجماهير القراء الواسعة.. وأظن أننا أصبحنا فى أمسّ الحاجة إلى تجديد الخطاب الأدبى، بعد أن دفعتنا الشكلانية إلى المأزق الحالى، وهى مهمة ثقيلة على نقادنا النهوض بها حتى ولو كانت «عكس التيار»، واقتضت مراجعة الحصاد الأدبى المطروح بجرأة وقوة وصراحة.