رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نعم للتواصل الاجتماعى.. وألفُ لا لبدائله

كثرت الأقلام التي تكتب وارتفعت الأصوات التي تنادي، وزاد الضجيج الذي يطالب بالسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأجدني أقف مندهشًا من هذا الصخب الدائر مطالبًا بالسيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه، فحتى سنوات مضت لم يكن هناك ما يدعونا للبحث عن وسائل مناسبة لهذا التواصل، فقد كان التواصل بين البشر أفرادًا وجماعات تواصلًا واقعيًا وليس افتراضيًا، كان التواصل يتم روحًا وجسدًا، لكنه اليوم يتم بضغطة زر- جافة- لا روح فيها ولا مودة.
أتذكر أننا كنا في قريتنا في قلب الدلتا نتزاور كعائلات في مطلع يوم العيد، بحيث تجتمع كل عائلة- أو مجموعة عائلات- في مضيفة المنطقة أو الدرب من دروب القرية الوديعة "العامرة" بأهلها، فيتقدم كبار العائلة أو المنطقة كل الجموع التي تسير في موكب صاخب تظلله بهجة العيد وتميزه ضحكات صافية وصادقة تعلو الوجوه وتمضي الجولة بترتيب بدأه أجدادنا، واحترمته الأجيال المتلاحقة جيلا بعد جيل، إذ تبدأ الجولة من حيث مضيفة بعينها اتفق الأقدمون على أن تكون هي نقطة الانطلاق وتنتهي بها الجولة ذاتها وكلما مرت عائلة بمضيفة دخلت فتصافح الجميع وتبادلوا التحايا وقدم المضيفون الحلوى والمشروبات تحية للضيوف، واعتلى "دكة المقرئ" شيخ يتلو آية أو آيتين لا أكثر من القرآن الكريم.
وفي حالة وجود صداقات أو حالات نسب لعائلة عند أخرى تعلو الضحكات وتخرج من القلب، أما حين يكون عند أهل عائلة ما حالة وفاة رحلت قبل أيام العيد، كان يُصدر أصحاب المضيفة أبناء المُتوفى ويقدمونهم على أنفسهم- حتى وإن كانوا أطفالًا صغارًا- ليتلقوا واجب العزاء في فقيدهم مجددًا. وكان كبار العائلات يوصون الصغار بعدم الضحك أو الصخب- كعادتهم في هذا اليوم- تقديرًا لمصاب المضيفين، وحين تنتهي جولتنا على كل دور الضيافة لكل العائلات، نجلس حيث اجتمعنا في مضيفتنا وننتظر لنتلقي- بدورنا - التهاني من العائلات ذاتها التي انتهينا للتو من المرور عليها لتهنئتها ولا ينتهي العيد عند هذا الحد، بل تمتد زيارات الود بين أبناء كل بيت وأَنْسِبَائهم وأقاربهم وجيرانهم حتى منتصف الليل على غيرعادة أهل الريف الذين ينتهي يومهم العادي بعد صلاة العشاء بنصف ساعة، لكنه العيد ولا مانع من السهر فيه، تلك كانت هي الصورة التي نعرفها للتواصل الاجتماعي.
في ذات القرية- وربما في كل قرى مصر- كان التواصل الاجتماعي يتجلى في أبرز صوره في حالات الوفاة، إنه الموت وهيبته الذي تنتهي عنده كل خصومة ويهون معه كل خلاف وتعود فيه المياه إلى مجاريها، فتجد نساء الأقارب والجيران وهن يحملن الصواني المحملة بالطعام، يتقدمهن رجل من أهلهن فتدخل بعض الصواني إلى بيت المُتوفى لتأكل نساء البيت المشغولات بفجيعتهن عن إعداد طعام أو ضيافة الأقارب المتوافدين لتقديم العزاء، أما معظم صواني الطعام وأشهاها، فكانت تذهب بمجرد انتهاء مراسم تشييع المتوفى إلى "الدوار" أو "المضيفة" ليأكل رجال العائلة، ويتبارى كل رجل لجذب أحبابه من أصحاب المصاب إلى حيث وجبته الشهية، مقدمًا عشرات الاعتذارات بأن ما يقدمونه لا يليق بالمقام، لكنه "على ما قُسُم" بسبب ضيق الوقت في حين أن ما يقدمه هو في الحقيقة من أفضل ما يطعمون به أهليهم، لكنه كرم أهل الريف و تواضعهم.
في قريتنا أيضًا كان الجميع يشعرون بمأساة بعضهم البعض، وليس في الريف أصعب على أهل بيت- بعد وفاة رب الأسرة- من فقد بهيمة تضمن الحد الأدنى من غذاء البيت وقُوته، فإذا أصيبت دابتهم بمرض، تهيأ الجميع لخبر فقدها وتناوبوا حراستها ليدركوها بسكين يكون هو آخر حل أمامهم بعد أن يعجز الطبيب حتى لا تنفق البهيمة وإذا لم يكن من الذبح بد، اجتمع الكل للمواساة وفي جيوبهم ثمن "كُوم" لحم، ليشتروه كنوع من المواساة والمساندة لصاحب المصاب وحملوا اللحم الذي دفعوا ثمنه أضعافًا مضاعفة، ليرسلوه بدورهم كصدقة لفقراء القرية لينتهي اليوم وقد جُمِع لصاحب المصاب ثمن بهيمة أخرى يشتريها من سوق السبت أو سوق الخميس- أيهما أقرب- لتعود للبيت ابتسامته، ولم لا فالكل في قريتنا كان يؤمن بأن الأيام دول فبادر بالخير في يوم لك لتجد من يمد لك يده في يوم عليك.
ولا أحتكر الشهامة والجدعنة على الفلاحين أو الصعايدة أو أبناء المناطق الشعبية، لكنها كانت أكثر وضوحًا في هذه المناطق عن غيرها، أما اليوم فقد استبدلنا- في ريفنا وحضرنا- كل مواقف التواصل الاجتماعي الواقعي، بتواصل افتراضي عبر مكالمة تليفونية، أو كلمة رثاء أو رسالة تهنئة عبر الإنترنت، بل إن معظم أهل المتوفين أصبحوا يذيلون نعيهم لفقيدهم بعبارة: "والعزاء على المقابر"، وألحقت بها منذ ظهور كورونا عبارة أخرى أشد جفاء هي: "ولا داعي للمصافحة"، وهكذا صار التواصل الاجتماعي بوسائله الافتراضية وسيلة بديلة لحميمية العلاقات ودفء المشاعر ومودة اللقاء في الأفراح والأتراح.
لكنه لا يغني أبدًا عن التواصل الاجتماعي الواقعي ذلك الذي كان ومضى وأظنه لن يعود.