رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علمى ولّا أدبى؟

ظل التصنيف التعليمى للطلاب فى مرحلة الدراسة الثانوية بقسميها العلمى والأدبى مؤشرًا فاصلًا لتصنيف النمط المعرفى للشخص على خلفية هوية معرفية إما أن تكون علمية أو أدبية أو نمط تفكير رياضى عقلانى مقابل نمط تفكير عاطفى، وظل هذا التوصيف ملازمًا له حتى بعد التخرج.

فى الحقيقة، تم الترويج لفكرة غير منطقية ولكن لها دلالتها وهى أن دارس العلوم أو المنطق الرياضى يختلف عن دارس العلوم الإنسانية مثل اللغات والآداب فى القدرة على الصمود أمام صعوبة التحصيل الدراسى، فلم يكن مستغربًا وصف الدراسة بالكليات العلمية كونه مرادفًا للشقاء فى التحصيل الدراسى والسهر والاستذكار، وأن حياة الطالب دارس العلوم التطبيقية قد قبل على نفسه الحكم بالأشغال الشاقة، بينما أقرانه من دارسى العلوم الإنسانية يستمتعون بمناخ دراسى هين أشبه برفاهية الثقافة الحرة، بل شيع فى اتفاق غير معلن أن فئة العلميين سواء من الدارسين أو الخريجين هم من النابغين والمتفوقين كونهم من الحاصلين على الدرجات الدراسية الأعلى مقارنة بدارسى العلوم الإنسانية، وكان هذا واضحًا لدى مضاهاة فرص الالتحاق بالكليات العلمية مثل الهندسة والطب مقابل مثيلاتها من الكليات النظرية كالآداب والحقوق.

ظل الرهان على هذه المزاعم ممتدًا مع الخريجين حتى فى مجالات العمل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان للفتيات الدارسات للتخصصات العلمية والتطبيقية نصيب لا بأس به من تبعات هذا التصنيف، فهن غالبًا أجهدن أبصارهن حتى صرن من أصحاب النظارات السميكة، أو هكذا يتوقعن، وأضف على ذلك انشغالهن عن التزين والاهتمام بالمظهر بسبب ضيق الوقت، حتى تزامن الأمر مع تقليص فرصهن فى الزواج.

إلى هنا وقد يبدو أن الأمر مجرد طرفة لا تؤثر على مجريات الأمور إلا أن المتأمل للمكون الثقافى للدارس المصرى فى أحوال كثيرة يجد أن هناك ذاتية ثقافية يضعها الفرد لنفسه بوصفه من المدرسة العلمية أو من المدرسة الأدبية، فأصحاب المدرسة العلمية يعتمدون التفكير العلمى واستخدام المنطق الرياضى فى العلاقة مع الحياة، فهو يستطيع فهم قدرات السيارة والأجهزة الكهربائية التى يرغب فى ابتياعها وطبعًا لا ضمانة لصحة هذا الزعم، فالكثيرون من الناس لا يدركون الفرق بين الفولت المستخدم لقياس القوة الدافعة الكهربائية والواط وهو وحدة قياس قدرة التشغيل واستهلاك الطاقة، وبالطبع، يسرى كل ذلك فى وجود تسليم ذاتى من قِبل دارس العلوم الإنسانية بأنه أقل حظًا فى فهم ما يدور حوله من ظواهر علمية أو فلكية أو حتى بيئية.

يدرك الراصد لمنهجيات التعليم العالمية أن الأنظمة الدراسية فى الأمريكتين وكندا وأستراليا ودول أوروبا وإسرائيل، بل معظم دول العالم لم تضع هذه الفواصل الفارقة فى قدرات العقل الدراس على هذا النحو غير المنطقى، فالقاعدة هى أن التعليم يستوجب إلمام الطلاب فى المراحل قبل الجامعية بكل الرصيد المعرفى الذى يضمن للخريج اختيارات متخصصة فى المرحلة الجامعية ومن ثم تأهيله للمواءمة الرشيدة بين ميوله المعرفية والدراسية وطموحاته الحياتية.

تكمن الإشكالية فى أن هذه المعتقدات غالبًا ما تتدخل فى توجيه نمط التفكير إلى مسار غير فعّال قد يترتب عليه غياب التفكير الإبداعى، أو توقف التفكير الناقد، أو تهميش التفكير المنطقى، ومن ثم فقد قدرة الشخص على الإبداع أو التحليل أو التأمل.

الملاحظ أن التاريخ يزخر بأمثلة لأناس ظلوا محصورين قسرًا فى هذه الأطر الظالمة لقدرات العقل وتحرروا منها لاحقًا بعد استرداد الثقة فى قدرات العقل، وغير خفى أمثال الدكتور إبراهيم ناجى الذى أبدع فى مجال الشعر والأدب ولم يستسلم لفكرة وحدة النمط العقلى فى التفكير، وكذلك الدكتور يوسف إدريس الذى تبَحّر فى عالم الأدب والرواية وغيرهما الكثيرون.

تجنبت الأنظمة التعليمية خارج مصر هذا العائق، وقامت على نهج جديد يختلف عن الأنظمة المعروفة قبل السبعينيات وهى تحول أنظمة التعليم من نظام التلقين المعرفى إلى نظام التأسيس الإدراكى الذى يتيح للدراس تمييز قنوات ووسائل جلب المعلومة وبناء رصيد معرفى وهى أنماط تعليمية لا تتعامل مع ملكات الحفظ أو التلقين السلبى بل تتيح فرصة أكبر لاستثمار القدرات الإبداعية للعقل مثل التأمل والتفكير والتحليل والتخمين واستخدام حسابات المنطق بشكل موسع.

والآن جاء دور السؤال البديهى فى فهم سببية عجز النظام التعليمى عن محاكاة الأنظمة العالمية والتحول إلى التحصيل الفكرى عوضًا عن التلقين المعرفى؟

بداية، لا بد من فهم المقومات التنافسية للفوز بفرص العمل فى الحياة وهى ثلاثة محاور يضمن التعليم واحدة منها، وهو بناء الرصيد المعرفى، ولكن يظل هناك فى خلفية السباق التنافسى عنصران هما المهارة والخبرة، ومعلوم أن المهارة مكون ذاتى تحدده القدرة الذهنية للفرد والذكاء وقدرته على استخدام رصيده المعرفى، أما العنصر الآخر وهو الخبرة فهو نتيجة حتمية للعائد التراكمى جراء التقادم الزمنى فى بيئة العمل من ناحية، والخضوع للتحديث المهنى والمعرفى من خلال الدورات التدريبية.

وفى النهاية، يصعب تهميش منطق العرض والطلب لدى التسابق للحصول على المؤهل الدراسى الذى بدوره يتيح للخريج فرصًا تنافسية بسوق العمل تعتمد على المهارة بدلًا من الرهان على سمعة المؤهل، لذلك يجتهد الدارسون وذووهم لنيل مؤهلات حظيت بمؤشر سمعة عالٍ وفق القياس الاجتماعى والمعروف تحت مسمى مؤهلات كليات القمة التى تم تسويقها كورقة رابحة فى سوق العمل تضمن عدم ركود الخريج فى انتظار فرص العمل.