رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طه حسين.. صور متجددة

رحل طه حسين عن عالمنا فى ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣، وبعد نحو نصف قرن يتجدد فى نفسى أنه فى طه حسين تحديدًا وليس فى غيره من رواد التنوير، امتزجت الرسالة الفكرية بالنبرة الإنسانية، وفى شخصه الفريد تطابق وجه الإنسان السمح مع رسالته لأجل التقدم والتطور.

وكان نزار قبانى محقًا عندما رثاه بقصيدة يقول فيها: «ارمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى.. إنما نحن جوقةُ العميانِ»، أما د. لويس عوض فأوجز رحلة ذلك المفكر العظيم بقوله: «تعلمنا منه أن أعمدة التقدم ثلاثة هى: العقل والحرية والولاء للمعذبين فى الأرض».

وفى ذكرى رحيل العميد تحضرنى صور العميد من عدة زوايا تبرز فضله ودوره وعلمه وإنسانيته، الصورة الأولى للكاتب الذى لا يغريه منصب حكومى مهما كان عظيمًا، ذلك أنه عام ١٩٥٠ استدعى مصطفى النحاس العميد وعرض عليه منصب وزير المعارف، فرفض طه حسين إلا إذا أقرت الحكومة برنامجه فى التعليم المجانى وتعهدت بتنفيذه، فوافق النحاس، ولأول مرة أمسى التعليم الثانوى والفنى بفضل العميد متاحًا بالمجان لأبناء الشعب، وكان ذلك الموقف متسقًا مع ما كتبه طه حسين من أن «التعليم مستقر الثقافة»، ولا ثقافة من دون إتاحة التعليم للجميع.

الصورة الثانية تجسد موقف العميد المدهش من قضية الطائفية، فقد كتب فى «مستقبل الثقافة فى مصر» يقول: «لعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط فى الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذى يكون بين الأنغام الموسيقية، فهو لا يفسد وحدة اللحن وإنما يقويها ويزكيها ويمنحها بهجة وجمالًا»، وهنا يرى العميد أنه لا تعارض بين جوهر الديانات السماوية وربما يرى الكثيرون ذلك أيضًا، لكن أحدًا لن يمضى إلى الأمام أبعد وأجمل مما مضى العميد حين يقرر أن الديانات تكتسب بهجة وجمالًا بتجاورها وحياتها المشتركة.

ويضيف إلى ذلك قوله: «عندما يمنح الله العدالة للناس فإنه لا يمنحها للمسيحيين فقط أو المسلمين فقط، وإنما لجميع الناس».

الموقف من التعليم، من الطائفية، من المناصب، من مراجعة الفكر المتحجر، كل ذلك يصبح رسالة مقبولة ومؤثرة بنبرة طه حسين التى تقدم الود على الخصومة، والمحبة على النفور، وفى شخصه تحديدًا وليس فى شخص أى مفكر آخر من رواد التنوير أمسى المغنى والأغنية شيئًا واحدًا، وتطابقت فى العميد وامتزجت إنسانية المفكر بأهمية الرسالة، وبذلك الصدد فى عز خلافات طه حسين العلنية والخفية مع العقاد فإن العميد يكتب له إهداء على روايته دعاء الكروان ١٩٣٤ يقول له فيه: «أنت أقمت للكروان ديوانًا فخمًا فى الشعر العربى، فهل تأذن فى أن أتخذ له عشًا متواضعًا فى النثر العربى الحديث؟».

بهذا التواضع وهذه العذوبة يقدم طه حسين مودة قلبه على كل شىء، هذه المودة التى جعلت عباس العقاد يقول عنه: «رجل جرىء العقل مفطور على المناجزة والتحدى»، وتتضح معالم إنسانية العميد فى علاقته بأهل بيته، ولاحظ هنا أن طه حسين، أزهرى، قادم من أعماق الصعيد، لكنه يرتقى إلى ذرى بعيدة فى علاقته مع زوجته الفرنسية سوزان، التى سجلت فى كتابها «معك» أنه كان يكتب لها وقد تجاوز الخامسة والستين فيقول: «ضعى رأسك على كتفى، ودعى قلبك يصغى إلى قلبى».

نقول فى ذكرى رحيل المغنى والأغنية ما قاله عنه توفيق الحكيم: «سوف ينطق اللسان العربى إلى آخر الدهر باسم طه حسين وفضله على لغة العرب».