رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل اختفت متعة التعليق الرياضى من مصر؟

تظل القوة الناعمة في مصر الستينيات والسبعينيات مصدرًا لحنين الناس ومحركًا للنوستالجيا في جميع المجالات، وبالرغم من كوننا لم نعش هذه المرحلة المزدهرة في عمر الوطن، لكن ما احتفظت لنا به المكتبة الوطنية من إبداعات صوتية ومرئية ومكتوبة تجعلنا ننظر إلى تلك الحقبة بمزيد من الإعجاب والتقدير، أضف إلى ذلك من أطال الله في أعمارهم من المبدعين فأدركنا متعة الأداء وروعة الأجواء التي ظلوا يحملون عبقها إلى أن رحلوا تاركين خلفهم تراثا في كافة ألوان الإبداع.

وأتوقف هنا عند المعلقين الرياضيين الذين أدركنا بعضًا من أيام تألقهم وبروز نجوميتهم، وحديثي هنا لن يقتصر على معلقي كرة القدم وحدهم، لكنه سيمتد- بل وسيبدأ- بالمرور على سيرة غيرهم من نجوم التعليق على اللعبات الشهيدة.

فمن ينسى الراحل عادل شريف، هذا المعلق بشياكة على لعبة الملوك والأمراء "التنس الأرضي"، فقد كان للرجل دور في تثقيف عموم الشعب بقواعد وقوانين هذه اللعبة، من خلال تعليقه على بطولتي "ويمبلدون" و"رولان جاروس" خلال السبعينيات من القرن الماضي، وبعباراته الفصحى الرائعة من عينة "يصهر جبل الجليد"، "أطلق صاروخ جو أرض لا يصد ولا يرد"، هذا الرجل الموسوعي الثقافة كرّس ثقافته لخدمة رياضة غير رائجة في بلاده، فحقق لها الانتشار الشعبي- على مستوى المتابعة على الأقل- أما الممارسة فهي مسألة أخرى تفرضها الإمكانات المادية المطلوبة لتلك اللعبة الأرستقراطية.

معلق آخر برع في الترويج للعبات ما كانت يومًا بنفس شعبية كرة القدم، ككرة السلة وألعاب القوى وغيرهما، حتى إن بعضهم وصفه بأنه معلق كل الرياضات، إنه الكابتن رياض شرارة، هذا الرجل موسوعي الثقافة الذي كان يعكس مستوى ثقافة عصر، وليس مجرد شخص، بحسن اختياره لألفاظ منسقة وعبارات منمقة، ففي منتصف الثمانينيات جعل لاعبين أمثال عمرو أبوالخير ومدحت وردة وسليمان سلعوة نجومًا توازي شهرتهم نجوم كرة القدم، وهو صاحب المصطلح الشهير "ضربة ساحقة ماحقة"، كما كان صاحب صوت مميز ومقنع بحيث يأخذ المتابع إلى حيث يريد هو كمعلق ببراعة ومعلوماتية وحسن اختيار للألفاظ والعبارات.

ومن ينسى المعلق فريد حسن، صاحب برنامج "مصارعة المحترفين"، بصوته الذي يشي بعمره المتقدم والبراءة التي تعكسها نبرات صوته وكأنه يشاهد المباراة معك لأول مرة، ثم خلفه المصارع الراحل ممدوح فرج الذي زاد بمعلوماته الاحترافيته من شعبية اللعبة، بعد أن قدم برامج بأسماء «مصارعة المحترفين»، «لمس أكتاف»، «الضربة القاضية»، «المصارع» في عدد من القنوات منذ انتشار الفضائيات، فذاع صيته واستمرت شهرة اللعبة النزالية الأعنف بين الجمهور المصري- متابعة لا ممارسة- بسبب روعة التعليق ودقة المعلومة وبراعة الوصف.

وفي ساحة كرة القدم حدث ولا حرج، فنجوم التعليق البارزون أمثال الكباتن: محمد لطيف، علي زيوار، حسين مدكور، أحمد عفت، علاء الحامولي، ميمي الشربيني، إبراهيم الجويني، حمادة إمام.
هؤلاء النجوم غزوا قلوب جمهور الفرق المتنافسة بكل ألوان قمصانها وعلى اختلاف الانتماءات، فقد كان التعصب لغة لا نعرفها رغم معرفتنا بانتماءاتهم الكروية، حيث مارسوا جميعًا اللعبة في فرق جماهيرية، لكنهم لم يعلوا دون وجه حق قيمة فريقهم على حساب المنافس أيا كان- إلا في حالات قليلة ومحدودة- فالقاعدة كانت أن المعلق يقوم بدوره في وصف المباراة للجمهور، بصرف النظر عن لون القميص أو جماهيرية هذا الفريق أو شعبية ذاك.

أما اليوم، وللأسف الشديد، فقد أصبحنا نلاحظ التعصب الشديد في أصوات المعلقين، وأصبح انحيازهم واضحًا في رؤيتهم وتحليلهم، وهم في الغالب- ولا أعمم- يخاطبون ناديهم الذي إليه ينتمون ولجماهيره يغازلون.. وأصبح معظمهم يغذون التعصب لدى العامة من الجماهير حتى "يركبوا التريند"، وهنا أجدني ميالًا للرأي الذي يرجح هذا السعي الحثيث من المعلقين إلى مغازلة جماهير الأندية لكونهم لم يحققوا شهرة سابقة في مجال كرة القدم قبل أن يتجهوا إلى التعليق، فأرادوا أن يكتسبوا بتعصبهم ما لم يحققوه بمهارتهم من شهرة وذيوع.

لقد نسى هؤلاء أن دور المعلق هو ترجمة ما يحدث على أرض الملعب، وسمة المترجم هي الأمانة، فلو أخل المترجم بالمعنى لحكمنا عليه بالفشل، لكنه كلما كان أمينًا زادت قناعة متابعيه وثقتهم في قوله، غير أن ما يميز مترجمًا عن آخر، أو بالأحرى معلقًا عن آخر، هو مدى ثقافته التي تؤهله لمزيد من البلاغة والإيجاز ودقة الوصف وحرفية الصياغة، ويكلل كل هذا قدرته على ضبط النفس والحفاظ على الحياد خلال أداء مهمته.

ويبقى السؤال: لماذا لم يعد التعليق الرياضي جاذبا لنجوم اللعبة كما كان في الماضي على عكس تكالبهم على تقديم البرامج؟ وهل الأجدر بهم أن يعملوا في التعليق على اللعبة أم في تقديم البرامج؟ وهل نجح أهل اللعبة في زيادة شعبيتها ببراعة ممارستهم للعبة أم في الزج بأنفسهم في العمل الإعلامي؟ أسئلة تنتظر إجابات خبراء الإعلام وأهل الكرة أيضًا.