رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهجوم السيبرانى الجديد على إيران.. مَن وراءه وماذا أصاب؟!

على نحو مفاجئ؛ ضرب عطل واسع وممتد شبكة توزيع الوقود الإيرانية، متمثلًا فى خروج محطات توزيع الوقود بمختلف أنحاء إيران عن العمل فى وقت واحد. وقع ذلك حسبما أعلنته السلطات الرسمية فى طهران، منتصف ليل الإثنين بالتوقيت المحلى ليمتد لقرابة يوم كامل، فيما يشكل هذا الهجوم الإلكترونى إحدى أبرز الهجمات التى تتعرض لها البنية المعلوماتية للجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال تلك الفترة.

بدأ التليفزيون الرسمى للدولة، بعد ساعات من وقوع العطل، يتحدث عن وقوع نوع من الخلل الذى تسبب فى عطل أنظمة البطاقة الإلكترونية للتزود بالوقود فى محطات التوزيع، مشيرًا فى بادئ الأمر إلى «خلل فى نظام المعلومات»، لكن لم تمض ساعات وقبل بزوغ الصباح كانت ذات القناة الرسمية تنقل عن المجلس الأعلى للأمن القومى أن الخلل نتج عن «هجوم سيبرانى» على النظام المعلوماتى لتوزيع الوقود، كما أشار المجلس إلى أن تفاصيل الهجوم، ومنشأه، موضع تحقيق تقنى وقضائى بدأ منذ صباح الثلاثاء. الصدمة التى أصابت المواطنين صباح هذا اليوم، فى البلد الذى يعد من الأغنى عالميًا فى إنتاج النفط، أن إيقاف توزيع الوقود صنع مشهدًا استثنائيًا باصطفاف السيارات والدراجات النارية فى صفوف طويلة أمام محطات الوقود، التى منها ما أُغلقت تمامًا وأخرى كانت تحاول التغلب على المشكلة بطريقة يدوية بدائية.

آلية التوزيع التى ضربت بهذا الشكل الواسع، عطلت النظام الذكى المخصص لتشغيل مضخات المحطات، الذى يعمل باستخدام البطاقات الإلكترونية، حيث تتيح لمستخدميها، وهم الأغلبية الكاسحة من المواطنين، الحصول على «حصة شهرية» من الوقود المدعوم، على أن يتم دفع ثمن تلك الكمية المعبأة ببطاقات مصرفية تقوم بتشغيل آلات الضخ بمحطات التوزيع، وكما يسرى هذا النظام على الحصة المدعومة فإن البيع بالسعر الحر العادى تسرى عليه ذات الآلية. هذه الضربة الاستثنائية دفعت الشركة الإيرانية لتوزيع المشتقات النفطية إلى الإسراع، عبر المتحدثة الرسمية لها «فاطمة كاهى»، بالإعلان عن عقد اجتماع طارئ، خرج على إثره بيان يؤكد أن الفنيين التابعين لوزارة النفط تلقوا تعليمات عاجلة للبدء فى فصل النظام الإلكترونى عن بعض المحطات الرئيسية، بشكل يتيح لها استئناف تزويد السيارات بالوقود يدويًا انتظارًا لحل المشكلة التقنية.

خلال ساعات نهار الثلاثاء، تأكد عبر أكثر من جهة أن هذا الخلل المفاجئ وقع بسبب «هجوم سيبرانى» مماثل لما تعرضت له إيران خلال السنوات الماضية، حيث سجلت إيران فى أكثر من واقعة أنها صارت هدفًا لعدد من محاولات «الهجمات المعلوماتية»، لعل أشهرها ما وقع فى فبراير ٢٠٢٠ عندما أعلنت وزارة الاتصالات عن أنها تمكنت من صد «هجوم سيبرانى» استهدف شركات تعمل فى مجال تزويد خدمات الإنترنت، ما أدى لاضطراب فى الاتصال بالشبكة لنحو ٣ ساعات قبل أن يعود للعمل بشكل جزئى، واستغرق الأمر أيامًا لاستعادة النظام قدراته الكاملة السابقة على الاستهداف. وفى مايو من العام نفسه أكدت أكثر من جهة أمنية دولية الترجيح بأن إسرائيل، العدو اللدود للجمهورية الإسلامية، تقف خلف «هجوم سيبرانى» طال أحد الميناءين الواقعين فى مدينة «بندر عباس» جنوب إيران، وذلك ردًا على ما أُشيع بأن هناك هجومًا سيبرانيًا إيرانيًا استهدف منشآت هيدروليكية مدنية لإسرائيل.

الأجهزة الأمنية الإيرانية حاليًا تحاول فك شفرة هذا الهجوم الأحدث، حيث تملؤها هواجس تعيد إلى ذاكرتها ما جرى فى العام ٢٠١٩، وترى أن ما جرى هذا الأسبوع هو تكرار لتلك النسخة التى صاحبت حينها قرارًا بزيادة أسعار الوقود، ارتباطًا بأزمة اقتصادية حادة دفعت الحكومة فى طهران لاتخاذ قرارات موجعة طالت قطاع الوقود، ما تسبب فى احتجاجات واسعة اندلعت فى شهر نوفمبر من العام ٢٠١٩، وخلال هذه الحوادث تعاملت قوات الأمن معها بشدة مفرطة، ووصفتها الحكومة بأنها أعمال شغب دبرها «أعداء أجانب»، وفيها أُحرقت محطات للوقود وفروع مصارف، كما تعرضت مراكز الشرطة لهجمات واعتداء واسع ولم تَسلم المحلات التجارية من النهب. وظلت شبكة الإنترنت خارج الخدمة لنحو أسبوع تقريبًا، بعد أن سقط عدد من الضحايا وفق المعلن رسميًا من السلطات الإيرانية «٢٣٠ قتيلًا»، فى حين أكدت مصادر مستقلة تابعة للأمم المتحدة أن الحصيلة وقتها تتجاوز «٤٠٠ قتيل» فى أقل تقدير.

لهذا مما يثير قلق جهات التحقيق الآن؛ هو انتقال بنك أهداف «الهجمات السيبرانية» إلى نشاطات تعد أكثر ارتباطًا بإثارة غضب الجماهير، وهو ما دفع وزير الداخلية «أحمد وحيدى» إلى الخروج فى الساعات الأولى من الأزمة كى يتحدث باسم الحكومة على منصات الإعلام الرسمية، مؤكدًا عدم وجود أى خطط تتعلق بزيادة سعر الوقود، كى ينزع مبكرًا فتيل الاحتقان الشعبى المتوقع. فقبلًا ظلت تلك الهجمات التى تعرضت لها إيران محصورة فى نطاق مشروعها النووى، أو منشآتها الرسمية ذات الارتباط بمنظومة تصنيعها العسكرى، مثلما جرى بداية العقد الماضى حين تعاونت الاستخبارات الأمريكية مع نظيرتها الإسرائيلية، فى تطوير الفيروس المعلوماتى «ستاكسنت» الذى استهدف البرنامج النووى الايرانى، الذى كشف لاحقًا عن أن اختبار فاعلية هذا الفيروس جرى فى «مجمع ديمونا» النووى بصحراء النقب، الذى يضم برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلى.

كما تبين بعد سنوات أن هذا السلاح الفيروسى صُمم كى يضرب البرنامج المعلوماتى الذى يتحكم فى الأجهزة الصناعية الآلية الشائعة الاستخدام فى قطاعات المياه والمنصات النفطية والمحطات الكهربائية، ومن ثم جرى استخدام نسخ عديدة منه فى استهداف أجهزة الطرد المركزى لتخصيب اليورانيوم ما أخرجها عن العمل فترة، والبعض منها أصابه التدمير الكامل الذى استلزم استبداله وتحمل نفقات باهظة أصابت طهران حينها بضربة موجعة.

لذلك فمنذ استخدام فيروس «ستاكسنت» تتبادل إيران من جهة، وكل من إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، الاتهامات بتنفيذ «هجمات سيبرانية»، تأتى هذه المرة لتصيب مرافق الحياة اليومية بالشلل، فى آلية استخدام صارت أكثر قدرة على النفاذ إلى قطاعات الخدمات ذات الارتباط بالجماهير، التى يصاحبها عمل استخباراتى إعلامى قادر على استثمارها بطريقة غير نمطية، توسع من دائرة الخسائر فى حال طالت المشهد السياسى الداخلى واستطاعت التأثير والضغط عليه، على النحو الذى جرى اختباره وتطويره فى شوارع طهران ومنشآتها أكثر من مرة، وربما هذه المرة قد يكشف عن نسخة أكثر تطورًا وذكاءً بعد أن تتوافر المعلومات لدى جهات التحقيق.