رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطر يحلق بأجنحة العلم الحديث

أرسل إلىّ صديقى نوفل نيوف، الكاتب والروائى السورى، تقريرًا علميًا يثير التأمل فيما يخص علاقتنا بالعلوم الحديثة، بهذا الصدد كان تشرشل قد قال يومًا: «إن دمار الحضارة الإنسانية سيكون على أجنحة العلم الوضاءة».

وفى حينه كانت العلوم قد توصلت إلى الدبابات والطائرات والسفن الحربية لا أكثر، ولم تكن بفضل أو بسبب العلوم قد ظهرت بعد القنبلة النووية التى أهلكت نصف مليون إنسان فى لحظات، ولم نكن قد سمعنا بعد عن القنابل العنقودية والانشطارية والكيماوية وغيرها مما تتطاير شظاياها فى لحم الشعوب الفقيرة.

ورغم ذلك كله فما زال بوسع البشرية التحكم فى كل ذلك الرعب العلمى فى ظل منظومة سياسية عالمية مختلفة وجديدة، لكن خطر العلوم الأكبر، وقد لا تستطيع البشرية أن تكبح جماحه، يظهر فى مجال آخر تمامًا، أعنى تدخل العلم فى التعديل الوراثى أو الجينى للإنسان، الذى يتقدم بعد اكتشاف العلماء تقنيات تمكنهم من تغيير الحمض النووى لدى أى كائن حى، نبات أو حيوان أو بكتيريا، وذلك بإضافة مواد جينية أو إزالة مواد أخرى أو تغييرها، مما يهدد بتغيير فى الجنس البشرى ينقله الأطفال إلى الأجيال التالية عليهم.

وقد شقت العلوم الحديثة ذلك الطريق بتجاربها على الحيوانات، ولعلنا مازلنا نذكر قصة النعجة الشهيرة «دوللى» التى تم استنساخها عام ١٩٩٦ من خلايا حيوان آخر فى جامعة إدنبرة بإسكتلندا، ومنذ ذلك الحين ثار سؤال التعديل الوراثى عند امتداده إلى البشرية المهددة بسبب التقدم العلمى.

وطرحت القضية من زاوية علاقة العلوم بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية، إلا أن خضوع تلك الأبحاث فى معظمها للجهات العسكرية نحى جانبًا كل اعتبار أخلاقى، ودفع للأمام بأولوية الهيمنة السياسية.

وسرعان ما خطا العلم خطوة أخرى، وفى عام ٢٠١٢ تم اكتشاف «نظام كريسبر»، وهو نظام بيولوجى لتغيير خصائص الحمض النووى يبحثون به عن مواقع جينات محددة ثم يستخدمون «مقصًا جزئيًا» لإزالتها.

ورغم الاستنكار الأخلاقى لتلك الاكتشافات فإن العلوم واصلت تقدمها غير المبشر بخير، وفى أغسطس ٢٠١٧ تمكن علماء أمريكيون من تخليص أجنة بشرية من حامض محدد، أى أنهم تمكنوا من إجراء تعديل وراثى فى الجينات بالفعل، وبعد ذلك بعامين فى ديسمبر ٢٠١٩ قام عالم صينى يدعى «خه جيانكوى» بإجراء تجربة لتوليد أول أجنة بشرية معدلة وراثيًا، وأعلن عن ولادة طفلين توأم معدلين هما: «لولا»، و«نانا»، وحكم على العالم بثلاث سنوات سجنًا فى الصين بتهمة انتهاك الحظر المفروض على إجراء التجارب على أجنة بشرية، وطرد من الجامعة، حيث كان يعمل أستاذًا مساعدًا.

وقالت أكاديمية العلوم الصينية إنها تعارض بشدة مبدأ «التعديل الجينى» فى البشر لأن ذلك قد يؤدى إلى مخاطر غير متوقعة، علاوة على أنه انتهاك لإجماع العلماء فى العالم، ونددت بتلك التجارب أكاديميات العلوم فى معظم البلدان، وردًا على دراسة تتباهى بأهمية التعديل الوراثى قال ديفيد كينج، رئيس مؤسسة هيومان جينيتك أليرتس المراقبة للقضايا الوراثية والجينات، إن تلك الدراسة «شر مطلق»، إذ إن هناك حظرًا دوليًا على ممارسات الهندسة الوراثية التى تستهدف تحسين النسل البشرى منذ ٣٠ سنة.

لكن مجموعة من العلماء يرون أنهم يعلمون ما لا يعلمه الباقون رغم عدم تحقيق أى فوائد طبية من ذلك على الإطلاق.

والواضح رغم الأصوات المحتجة أن التجارب سوف تمضى فى طريقها محمية بأموال المجمعات العسكرية وبأهداف الهيمنة السياسية التى لا تستنكف اللجوء لأى وسيلة، ومع أننا نقدس العلوم بشكل متوارث بصفتها إحدى أهم أدوات التطور إلا أن علينا أن نقف بانتباه وحذر مع ذلك «التقدم» الذى يهدد الحضارة الإنسانية بالفناء على أجنحة العلم الوضاءة. وما أصعب أن يكون الصديق هو العدو، وأن يقود العلم إلى الجهل والظلام.