رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ مهرجانات السينما فى مصر

مهرجان الجونة
مهرجان الجونة

يسبق مهرجان «الجونة» السينمائى عشرات الدورات والمهرجانات الحافلة بالأفلام والنجوم والهموم. أكثر ما يلفت الانتباه أن التغطية الصحفية للمهرجانات لم تختلف كثيرًا، فما كان يُنشر عن «القاهرة السينمائى» فى دوراته الأولى هو تقريبًا ما يُنشر عن دوراته الحالية وعن مهرجانى «الجونة» و«الإسكندرية» وأى مهرجان سينمائى آخر، الفنانون ليسوا ملائكة والنقاد أيضًا، والنميمة والحكايات الرائجة حول ليالى وسهرات وحفلات المهرجانات لا تختلف كثيرًا عن الآن، أما الأفلام فكانت أقل، والأزياء كانت أكثر أناقة وحشمة وانغلاقًا، وصراع النجوم على الجوائز كان صراعًا داميًا ينتهى- أحيانًا- بالغضب والشجار والقطيعة التى تبقى عمرًا طويلًا، والجنون حاضر ولكن بأشكال أخرى.

لم يكن حسين فهمى يلتزم بالبدلة الكاملة ويرتدى قمصانًا تكشف نصف صدره، وظل سمير صبرى محافظًا على موضة «السكارف» الذى يتدلى إلى داخل جاكيت البدلة، وكان هذا جنونًا تتناوله الألسنة كما تتناول أزياء حسن أبوالروس الآن.

البحث عن أسرار وحكايات المهرجانات فى مصر لم يكن سهلًا، ففى الصحف أخبار رسمية، لا تشبه التفاصيل التى تُنشر الآن، وبين الفنانين والنقاد حكايات تستحق أن تروى.

«القاهرة السينمائى» ليس الأول: «جماعة الاقتصاد القومى» نظمت «ندوة للفنانين» فى 1936

انطلق مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الأولى عام ١٩٧٦، والشائع أنه أول مهرجان سينمائى فى مصر والشرق الأوسط، لكن مصر أقامت مهرجانًا سينمائيًا آخر سبقه بـ٤٠ عامًا. لم يستمر طويلًا فسقط من الذاكرة سهوًا، ولم تبق صوره حاضرة، ولم يستضف نجومًا أجانب، وأُقيمت دورته الأولى عام ١٩٣٦، وكان بدائيًا للغاية، إذ جرى على شكل ندوة عُقدت فى مكان عام، ودُعى لها جميع صنّاع السينما فى مصر فى ذلك الوقت، وألقى بعضهم خطبًا. 

دعت للمهرجان «جماعة الاقتصاد القومى» التى كانت تعتبر السينما موردًا ماليًا مهمًا للدولة، وكان عمر السينما المصرية لا يزيد على ٢٠ عامًا، فكان هدف المهرجان، بخلاف لقاء صنّاع السينما ونقاشهم حول تطوير صناعتهم، الدعاية لمشاهدة الأفلام والبحث عن طرق جديدة لتحقيق الأرباح.

وتروى مجلة «الكواكب»، فى عدد صدر عام ١٩٥٦، أن «عبدالرحمن باشا رضا تولى رئاسة المهرجان، ولكونه شهيرًا بين الطبقات العليا، تولى دعوة النجوم لحضور المهرجان فى دار سينما الأزبكية يوم ٢٣ يناير ١٩٣٦ باعتباره أول مهرجان سينمائى يُعقد فى مصر». 

حضرت المهرجان المنتجة عزيزة أمير، أشهر المنتجات المصريات فى ذلك الوقت، وألقت كلمة قالت فيها: «أتمنى أن ينال المهرجان صفة رسمية، ويقام تحت إشراف الحكومة المصرية، ويقدم جوائز للمشتغلين بالسينما حتى يمثل تحفيزًا وتقديرًا لهم للإجادة فى عملهم».

أُقيمت الدورة الثانية من المهرجان عام ١٩٣٨ بإشراف «جماعة الاقتصاد القومى»، لكن نبوءة عزيزة أمير تحققت بعد ١٨ عامًا، حين دعت مصلحة الفنون التابعة لوزارة الإرشاد «الاسم القديم لوزارة الإعلام» جميع الفنانين والسينمائيين والمنتجين لحضور مهرجان سينمائى عام ١٩٥٦، وفى هذا المهرجان بدأ تقليد توزيع الجوائز على بعض الفنانين، لكنه لم يدم طويلًا بسبب العدوان الثلاثى، وتحت ضغط الحروب الثلاث التى خاضتها مصر، كانت السينما تنتج أفلامًا مهمة، لكن الاحتفالات والمهرجانات- فى جميع المجالات- كانت شيئًا مستفزًا للرأى العام، فلم ينظَّم مهرجان واحد حتى أقيم مهرجان «القاهرة السينمائى» عام ١٩٧٦.

بائع عرقسوس وتمثال لـ«حتحور» وعروض «سواريه» فى الافتتاح

شهد يوم ١٦ أغسطس ١٩٧٦ انطلاق الدورة الأولى من مهرجان «القاهرة السينمائى»، كان المهرجان من أفكار الكاتب الصحفى كمال الملاخ وتنظيم «الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما»، وبدأ التجهيز له فى شهر مايو من العام نفسه.

كان الجديد فى مهرجان «القاهرة» عن المهرجانات السابقة أنه نال لقب «دولى» باعتراف شخصيات سينمائية شهيرة من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا واليونان ويوغوسلافيا والمجر والسويد وتونس والجزائر، اعترفت هذه الدول بالمهرجان ووافقت على الاشتراك بأفلام.

وكانت الجائزة المقدمة للفيلم الفائز توصف بـ«أول أوسكار مصرية»، وبدأ مسئولو المهرجان التفكير فى شىء مصرى يُمنح للفيلم الفائز، واهتدوا أخيرًا إلى شىء من رائحة الفراعنة، وكان تمثالًا للملكة الفرعونية «حتحور» وتمثالًا آخر لـ«نفرتيتى»، ونحتهما خصيصًا المثّال منير زكى، وصمم المهرجان لوحات من البردى لتقديمها هدايا للشخصيات المهمة التى ستحضر.

حضرت كلوديا كاردينالى، الممثلة الإيطالية الشهيرة، التى كانت أبرز تصريحاتها الصحفية، خلال المهرجان: «تعلمت التمثيل من عمر الشريف»، وانبهر الجميع إعجابًا بالممثل المصرى الذى تعترف الفلتة الإيطالية بأنه- بشكل ما- «أستاذها». 

وأسهم عمر الشريف بدعوة النجوم الكبار، بوساطة من عبدالحليم حافظ، دعا «كاردينالى»، والفنانة الهولندية الشهيرة، فان ميلردى، والفلبينية شاريتو سوليس.. وكان فى استقبال الوفود الأجنبية «بائع عرقسوس» بـ«الصاجات» كـ«فلكلور مصرى»، واستقبل الوفود العربية الروائى يوسف السباعى، وعرض بعض الدول العربية أفلامًا بالمهرجان، السعودية قدمت فيلمًا تسجيليًا عن مدينة الرياض، والإمارات عرضت فيلمًا قصيرًا عن «الجمل»، والسودان شارك بأول إنتاج سينمائى له فيلم «فرس الزينى».

ويروى الفنان سمير صبرى، الذى قدم الدورة الأولى من «القاهرة السينمائى» فى مذكراته، أن الهدف من إقامة مهرجان «القاهرة السينمائى» كان سياسيًا، ولكن كيف؟.. حمل كمال الملاخ حلمًا بتأسيس مهرجان سينمائى يسبق به إسرائيل، التى كانت تسعى فى ذلك الوقت لإطلاق مهرجان سينمائى والحصول على موافقة الاتحاد الدولى للمنتجين، فقرر أن يكون السبق لمصر.

التقط عبدالحليم حافظ طرف الخيط، وأُعجب بالفكرة، من الناحيتين الفنية والسياسية، وبدأ يخاطب جهات رسمية لتبنيه فاقتنعت، وبقيت مشكلة واحدة.. «التكلفة الضخمة للمهرجان».. ووجد الحل.

قدّم «حليم»، متطوعًا، عدة حفلات ذهبت أرباحها بالكامل للإنفاق على تأسيس المهرجان وإقامة دورته الأولى، ولحقته فى ذلك وردة بحفلات أخرى، حتى وصل الخبر إلى الراقصة نجوى فؤاد، وكان زوجها رجل الأعمال اللبنانى، سامى الزغبى، مدير فندق «شيراتون» القاهرة. أقنعته برعاية المهرجان واستضافة فقراته الصباحية فى فندق «شيراتون» مجانًا. وسرت نميمة عدم حضور الموسيقار محمد عبدالوهاب المهرجان، بحجة قضائه إجازة فى لندن، وحاولت زوجته، نهلة القدسى، أن تحتوى الموقف بالتبرع بـ٢٠٠ جنيه لإدارة المهرجان قبل أن تلحق به فى ليلة الافتتاح. 

ولم يقدر «حليم» على الوفاء بوعوده وإحياء الدورة الأولى للمهرجان بصوته، فقد سبق وفاته بأشهر وكان يمر بأصعب مراحل مرضه، فأناب شادية للغناء بدلًا منه، وطلب منها أن تغنى «ليالى العمر معدودة»، وقبل أن تنتهى أرسل لشراء عقد فل من خارج الفندق، واشترى عقدًا أبيض صعد به المسرح وقلّده شادية، وقبّل يدها. 

عروض الفساتين ليست تقليدًا جديدًا، كان «الريد كاربت» فى أول دورة من «القاهرة السينمائى» حافلًا بالفنانات والفساتين تحت مسمى «عروض السواريه» بقاعة فندق «هيلتون» الذى استضاف فعاليات المهرجان مساءً، وكان أغلب الأزياء سواريه يغلب عليها الذوق الفرنسى.

لم تكن ثقافة الفساتين «مفتوحة الصدر» رائجة فى ذلك الوقت، ارتدتها فقط كلوديا كاردينالى، وكان أغلب فساتين الفنانات المصريات طويلة وأنيقة وتكشف الكتفين أو الساقين، والإكسسوارات مستوحاة من الحياة الفرعونية أو الطبيعة المصرية، أما الرجال، فكان كمال الشناوى أغرب من يرتدى الملابس بينهم، وكان ذلك بسبب بدلاته «اللامعة والمطرزة».. ولم يكن يعرف هؤلاء الفنانون أنه سيأتى رئيسًا للمهرجان بعد ١٢ عامًا ليجعل ارتداء البدلات بذيل طويل «الإسموكن» إجباريًا، هذا الرئيس هو الفنان حسين فهمى، ودخل معركة لتحديد زى الحضور الرجال عرفت باسم «معركة الإسموكن».

ولم يغضب المهرجان أحدًا، أرضى النجوم الكبار بجوائز تقديرية، فحصل عليها يوسف وهبى وعبدالوارث عسر وبهيجة حافظ وشادية، وساوى بين الأدباء، فاقتسم نجيب محفوظ ويوسف إدريس جائزة «أفضل قصة»، وحصل يوسف السباعى على جائزة «أفضل حوار». 

مشاجرات النجوم «عرض مستمر» ودعوة ليوناردو دى كابريو للحضور

لم تخل المهرجانات السينمائية فى مصر من معارك. كشفت صحيفة «وطنى»، عام ١٩٨٨، عن أنه مع ظهور مهرجانات أخرى كـ«الإسكندرية»، أرسل مهرجان «القاهرة السينمائى» إلى جميع السفارات الأجنبية فى مصر خطابًا يطعن فى شرعية المهرجانات الأخرى ويحذرها فيه من المشاركة بها، ويقول نص الخطاب المكتوب بالإنجليزية بلهجة غاضبة: «نود أن نعلم سيادتكم أن المهرجان الذى يُعقد فى ديسمبر المقبل (يقصد مهرجان القاهرة) هو المهرجان الوحيد المعترف به فى مصر من قِبل الاتحاد الدولى للمنتجين، وأن مشاركتكم فى أى مهرجان آخر بالقاهرة أو الإسكندرية سوف تحرمكم من فرصة التواجد بمهرجان القاهرة الثانى عشر». 

جن جنون مسئولى مهرجان «القاهرة السينمائى» من إقامة مهرجان منافس بالإسكندرية، فانتهى الأمر بهذا الخطاب. 

كنت أفتش بين الصحف القديمة التى تغطى أخبار المهرجانات، فوجدت كاتبًا ينتقد عضوية آثار الحكيم للجنة تحكيم «القاهرة السينمائى» عام ١٩٩٨، وآخر يهاجم رئاسة ليلى علوى للجنة تحكيم مهرجان الإسكندرية السينمائى عام ١٩٩٩، حين كان عمرها لا يتجاوز ٣٧ عامًا، فخبرتها السينمائية كانت محدودة، لأكتشف أن الأمر ليس جديدًا، ففى كل مهرجان حديث، تتكرر الانتقادات حول مشاركة فنان أو فنانة ما بإحدى لجان التحكيم لقلة الخبرة. وفى «الإسكندرية السينمائى»، وقعت أحداث غريبة. قررت إدارة المهرجان تكريم عادل إمام فى حفل الافتتاح عام ٢٠٠٠، فطلب تأجيل التكريم حتى يوم الإجازة الأسبوعية لمسرحية «بودى جارد».. وفى صباح يوم آخر، يروى السيناريست الراحل مصطفى محرم، أنه حين كان مدير مهرجان «الإسكندرية السينمائى»، أيقظوه مبكرًا، وقالوا له: الحق.. أحمد زكى ضرب أحد النقاد. خاف أن تسرى الحكاية بين الفنانين والصحفيين، وتتحوَّل إلى «فضيحة للمهرجان»، وارتدى ثيابه بسرعة، ونزل المطعم، فرأى الناقد يجلس غاضبًا، وحوله مجموعة من الزملاء: سألته: جرى إيه؟، فأخبرنى بأن زكى عندما وجده متمسكًا برأيه فى تمثيله للشخصيات، ضم قبضة يده وضربه فى غيظ، وقيل إن أحمد زكى عاد إلى القاهرة غاضبًا. 

وفى عام ١٩٩٨، كان حسين فهمى، رئيس مهرجان «القاهرة السينمائى»، ودعا النجوم العالميين مايكل دوجلاس وليوناردو دى كابريو وجينا لولو بريجيدا لحضور حفل الافتتاح، فطلبوا مقابلًا ماليًا وحراسة خاصة وإقامة فاخرة، الأشياء العادية التى يطلبها أى فنان عالمى قادم إلى مهرجان بدولة بعيدة، لكن «فهمى» رفض وصرف نظر، واكتفى بوجود الممثل الأمريكى جون مالكوفيتش «الشهير بالأدوار الثانية» فى لجنة التحكيم.

والقصة الأغرب عن مهرجان «القاهرة» أن رجلًا يدعى «إبراهيم» كان مشهورًا طوال ١٠ سنوات من ١٩٨٨ حتى ١٩٩٨ بحضور جميع أفلام المهرجان المختومة بجملة «للكبار فقط»، حتى أطلقوا عليه اسم «إبراهيم مهرجان». كان مدمنًا للأفلام شبه الإباحية، وبينما كانت تذكرة دخول الفيلم بـ٢٠ جنيهًا، كان يقيمه حسب المشاهد، فالقُبلة بجنيهين، ومسكة اليد بنصف جنيه، والحضن بجنيه، وهكذا حتى يكتشف، هل حصل بقيمة ما دفعه على مشاهد أم لا؟.. وكان يطلب من جميع الحضور مشاركته، فيعد بصوت عالٍ: «حتى الآن، أخدنا بـ٧ جنيه، وباقى ١٣ جنيه.. يا مسهل»! وفى أحد الأفلام، قل عدد المشاهد الساخنة، فصرخ إبراهيم حين وصل إلى النهاية صرخة مدوية أضحكت الجميع: «باقى ثمن التذكرة فى رقبة رئيس المهرجان، منه لله».