رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الروائي فكري عمر: أقيس وصول صوتى بقدرتي على فهم ذاتي (حوار)

 القاص والناقد فكري
القاص والناقد "فكري عمر"

كان لصدور مجموعته القصصية "مقهى الشجرة الزرقاء" نبوءة مُحمَّلة بإرهاصات تخص القادم، وكذلك تحمل العديد من التأويلات والتفاسير فيما يخص المواطن العادى، وتلك التفاصيل البسيطة والدقيقة المحملة بالأسى والشجن فيما يخص عقود ماضية تلاعبت بمصائر البشر في الذاتى، والوجودى، والإنسانى المعيشى، إنه القاص والروائي والناقد فكرى عمر المولود بمحافظة الدقهلية، والذى يشتغل على المكان والزمن مُصرًا على عدم ترك قريته "بُهوت" حيث ولد في سبتمبر عام 1980م، يخصُّ "الدستور" بهذا الحوار.

- حدثنا عن بداياتك مع فنيّ القصة والرواية، ولمن السطوة فيهما على روحك السردية؟

  • القصة القصيرة هى بوابة دخولى إلى عالم السرد حيث المواقف الصغيرة التى تفيض بالمعانى الكبيرة.. النظر إلى العالم من خلال تأمل جزئياته.. النَفَس السردى الذى يتلمس خطواته على الأوراق بالتركيز على إحساس، أو فكرة تُصاغ بشكل لا تفقد معه نغمتها السردية. ثم كانت الرواية بنسيجها المتشابك، ورؤيتها التركيبية للأجزاء المنسوجة معًا بخيوط ظاهرة وخفية. القصة ترى الإنسان جزءًا من مجمل الحكاية. أما الرواية فتجعله مركزًا لها، ومنتجًا لمعانيها ومتغيراتها. محاولة الفصل بين الفنّين مهارة أسعى إليها طوال الوقت؛ لأننى أكتب الاثنين معًا. لى ثمانية أعمال أدبية تتناصف بين القصة، والرواية، حتى النشر إلى الآن: مجموعة تليها رواية، وهكذا.

- تمارس النقد الأدبى أو الإبداعى لشتى فروع السرد، فكيف ترى نفسك في حالات النقد، أو تلك الأسماء المتعددة في محافظة الدقهلية نقدًا وإبداعًا؟

  • النقد بالنسبة لي نمط من التفكير. أميل إلى التأمل، والتحليل، ومحاولة استنباط القوانين التي تحكم حركة الناس والظواهر، ودلالتها وتأثيرها. مع القراءة تأصل هذا الميل، ودعمته تجربة الإبداع، فالمراجعات المتوالية للكتابة الأولى يستيقظ فيها القارئ، والناقد الداخلى إلى جانب العقل الواعى بالتفاصيل، والقلب الممتلئ بالمشاعر. أَظُنُّ أن بداخل كل مبدع ناقدًا يكتشف نقاط القوة فيُنميها، وفراغات الضعف فيعالجها.. بالتالى كانت ممارستى القراءة التأويلية، أو التحليلية النقدية للأعمال الأدبية الأخرى، وهى طريقة أيضًا لمتابعة جزء مما يصدر من أعمال أدبية جديرة بالتأمل والدراسة، ونوعًا من التعبير الأدبى الذى ينطلق مرة في صورة قصة، ومرة في صورة رواية، وأحيانًا في صورة نقد.

- عن تعدد الأصوات للرواة في عالمك الإبداعى سواءً في القصة أو الرواية والذى يؤكد ثقافتك العميقة فيما يخص أسلوبي الحداثة، وما بعد الحداثة في الكتابة، مَنْ مِنْ أسماء الكُتَّاب في العالم أو في مصر كان لهم التأثير عليك باختيار أشكالك الأدبية؟

  • أقيس وصول صوتى بمدى قدرتى على فهم ذاتى والآخرين فهمًا صادقًا في لحظة ما. قال "نجيب محفوظ" ذات مرة: "إن حب الناس هو ما يجعلنا نفهمهم". هذه الجملة تحمل خلاصة عمل الروائى وطريقته أيضًا لبناء عمل فنى متعدد الأصوات. و"نجيب محفوظ" أيضًا أول المؤثرين إبداعيًا علي، ثم "يحي حقى"، "توفيق الحكيم"، "طه حسين"، و"يوسف إدريس".. كنت محظوظًا في بداية القراءة أن بدأت بالكبار، لتوفر كتبهم في مكتبة صغيرة ببيتنا. عالميًا أحببت الكثير من الكتاب والمسرحيين والشعراء والنقاد، على سبيل المثال فقط: "كافكا"، و"ماركيز"، و"كاوباتا"، و"ميَّاس". مع الوقت خرجت وكان لا بد لي من فعل ذلك من التأثر إلى بناء صوتى الخاص، ومحاولة اكتشاف البِنْيات المختلفة، وتنوعها.

- عن إشكالية الالتباس ما بين الأقاليم وكُتَّاب القاهرة، مركز الإبداع المصرى، كيف ترى هذه الإشكالية المقرورة؟ وهل لم تزل تؤمن بأن هناك كاتب إقليمى وكاتب آخر قاهرى؟

  • لم أقتنع إطلاقًا، منذ بدأت الكتابة، بأن مكان المولد والعيش، سواء في الأقاليم أو القاهرة، يمكن أن يمنح كاتبًا ما أكثر مما هو عليه بالفعل، أو يُقلل من ميزاته الإبداعية. هناك كاتب حقيقى وآخر لا كاتب على الإطلاق وإن سَوَّد مئات الصفحات. خطاب الأقاليم والقاهرة كان خطابًا سلطويًا يُعبِّر عن مركزيتها، ويعكس غرورها، ومحدودية فهمها لطبيعة مصر المتنوعة بيئيًا، وثقافيًا، واجتماعيًا. دخل المثقفون طوال سنوات في تلك الثنائية. بعضهم حاول الاستفادة من هذا التناقض إلى أن جاءت التكنولوجيا؛ لتعيد صياغة الأشياء بواقعية إلى حد ما، وتكسر السور الهش الذى كان كثيرون يدمنون التقوقع حوله في كلا الجانبين.

- عن المشهد السردى المتنوع والزخم في مدينة المنصورة، أين كل هذه الأصوات بمساراتها الثقافية والإبداعية المختلفة من الإعلام المصرى؟ وهل هناك تجاهل متعمد لتلك المواهب؟

  • الدقهلية أرض خصبة بالإبداع قديمًا وحديثًا.. إذا تحدثنا عن الوقت الحالى فهناك من يبدعون القصة القصيرة، والرواية، والشعر، أو يمارسون النقد بأدواته ببراعة. ما يلفت الانتباه هو التنوع في الأعمال الأدبية، واتساع النظرة، وإدراك طبيعة الشكل الفنى وإمكاناته، وإبداع صوت خاص ومميز.. إذا ذكرت بعض الأسماء أستدل بها على التنوع الأدبى سأُضطر إلى عدم ذكر أسماء أخرى بسبب مساحة الإجابة وهذا الأمر يمكن أن يُفهم على غير حقيقته، لكن الحقيقة أن مساحة الإبداع في المنصورة لافتة للانتباه.

- بعد سبعة عشر عامًا تقريبًا من الكتابة المختلفة سرديًا وجماليًا، أين أنت من جوائز الدولة المصرية؟

  • أظن أن كل جائزة تُعبِّر عن ذائقة لجنة تحكيمها، وتوجهات مانحها. التفكير فيها مرهق. هناك أعمال أدبية ضعيفة فازت بجوائز كبيرة.. شبهات حول الشللية.. النظرة التقليدية للأدب.. الترتيب العمرى، والشهرة الإعلامية لا الجودة الفنية. وهناك أعمال جيدة فازت وحظيت بما تستحقه من ضوء وقراءة. لم أتقدم لنيل جائزة الدولة التشجيعية ولا مرة؛ لأن شروطها السنوية كانت تَحدُّ من المشاركة، فمرة يشترطون تقديم مجموعة قصص قصيرة جدًا، أو رواية تاريخية! فزت بعدة جوائز في القصة القصيرة، وفى الرواية: جائزة المواهب فى المجلس الأعلى للثقافة، والجائزة المركزية لهيئة قصور الثقافة. ورغم دعم الجوائز للمبدع إلا أن من يعتمد من الكُتَّاب على مقياسها وأحكامها كليًا يُدمِّر طريقه بيديه.

- هل لانعدام التواصل ما بين كتاب الأقاليم ونقاد القاهرة سببًا مباشرًا في التعتيم، أو تجاهل كتابات مصرية متعددة في قرى ومدن ونجوع مصر؟

  • الشلل الأدبية ظاهرة في العالم كله فيما أعتقد. تسمى خارجيًا بالمدرسة الفنية، إذ يلتقى مجموعة من الكُتَّاب على رؤية محددة للفن، وشكل أدبى لممارسته، لكنها هنا تتحول إلى خليط من توجهات ومدارس فنية مختلفة تجمعهم السيطرة على وسيلة نشر ما، أو جائزة ما، أو محاولة إقصاء الآخرين. يتحول أى شىء صحى إلى كارثة هنا، فالمفاهيم مختلفة، واتخاذ الفن وسيلة للترقى الاجتماعى، والتمايز عن الآخرين لا يفصل الكاتب فقط عن محيطه بل عن فهمه لطبيعة الإبداع. الأمور هزلية في هذا الشأن، لكنها رغم ذلك موجعة، لأنها تسحق أحيانًا أعمالًا إبداعية كبيرة في سبيل عضو الشلة.

- رؤيتك لمستقبل وأشكال الكتابة الإبداعية في مساراتها المختلفة وتحديدًا بعد أزمات الربيع العربى، وجائحة كورونا؟

  • الربيع العربى لا يزال متعثرًا. لم يُنتج بعد تغييرًا جذريًا يمكن أن يُغيِّر الكتابة أكثر مما تفعل التكنولوجيا الآن، وقد دخلت بمفرداتها وبنيتها إلى النصوص الأدبية، أو بواسطة عرض تلك النصوص على الجمهور، وتَحوُّل طبيعة التلقى إلى السرعة في رد الفعل، والاستهلاك الذى يظلم أعمالًا كثيرة. ستظل القصة، والرواية، والشعر طوال مسيرة الإنسان، لكنها ربما تتمازج مع ألوان فنية أخرى، لتنشئ أشكالًا تلاءم العصور الجديدة سريعة التحول. وجاءت جائحة كورونا؛ لتُذكِّر الناس بأن حياتهم مهددة على الدوام.. أعادت إلى أذهانهم فكرة أنه لم ولن توجد أبدًا نجاة فردية في عالم نعيش فيه معًا، نتنفس الهواء ذاته على نفس الأرض. سيتأثر الأدب بذلك، لكن الأمر سيأخذ وقتًا.