رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بالمناسبة.. مَن يدفع للزمار؟؟

الضجة التى أثارها عرض فيلم «ريش»، تطرح قضية مهمة، القضية هى الاستخدام السياسى للفن.. الفن فى حد ذاته شىء رائع، لكن الاستخدام السياسى للفن شىء رخيص، الفن مثل أى شىء نبيل إذا أسىء استخدامه يفقد قيمته، الحب مثلًا شعور نبيل، لكن الحب مقابل النقود انحطاط أخلاقى وهكذا.. هل يتم استخدام الفن سياسيًا؟ نعم، ويتم استخدام الدين، ويتم استخدام الثقافة، ويتم استخدام الاقتصاد.. كل شىء يتم استخدامه سياسيًا.. وإذا انتقلنا للحديث عن فيلم «ريش»، فهناك ضجة مبالغ فيها، اعتراضًا على موقف لفنان شهير، ولنتفق أولًا أن الفيلم غير ممنوع فى مصر، وأنه لن يمنع لأنه أصلًا غير جماهيرى، وأن ما حدث أن فنانًا انسحب من مشاهدة الفيلم، وهو بكل تأكيد حر فى موقفه، وفى شرح دلالة موقفه، أما غير الطبيعى فهو ذلك الكم من الاستظراف ضد الرجل، وتعمد تشويهه، من أناس لم يشاهدوا الفيلم، ويهاجمون فنانًا شاهده بالفعل، وبنى موقفه بناء على ما شاهد، ولنترك الفيلم جانبًا ولنتحدث عن التمويل الأجنبى للسينما فى مصر وفى غير مصر.. هل تتخيل أن مَن يدفع التمويل لفيلم معين هو فاعل خير؟ هل هو «بائع سبح»؟، هل هو بلا أهداف؟ هل إذا ذهبت له مثلًا بفيلم يدين المثلية الجنسية.. هل سيموله؟ هل لو ذهبت له بفيلم ضد إسرائيل.. بفيلم عن النهب الاستعمارى للعالم الثالث.. هل سيموله؟.. تكون ساذجًا لو قلت نعم، وتكون كاذبًا على نفسك لو أنكرت إن الإجابة «لا»، هل تتخيل أن مسئول صندوق دعم السينما فى وزارة خارجية هذا البلد أو ذاك سينمائى فعلًا؟ أنت إذن لم تقرأ كتاب «مَن يدفع للزمار» ومؤلفته لسوء حظك إنجليزية هى فرنسيس سارندون، وقد ترجمه المترجم الكبير طلعت الشايب وصدر عام ٢٠٠٣ عن المركز القومى للترجمة، وأشاد به إدوارد سعيد إشادة بالغة، «الزمار» الذى تقصده الكاتبة هو الكُتّاب والفنانون الغربيون الذين تم استخدامهم فى الحرب الفكرية ضد الاتحاد السوفيتى، أما مَن الذى يدفع فهو وكالة المخابرات الأمريكية CIA التى نعرف أنها تم تأسيسها خصيصًا عام ١٩٤٧ لإدارة الحرب الثقافية الباردة مع الاتحاد السوفيتى، يتحدث الكتاب عن تأسيس المخابرات الأمريكية لمؤسسات ثقافية وفنية، منها بيت الحرية، ونادى القلم الدولى بفروعه الـ٣٥، ومنها سلسلة من المجلات الثقافية المهمة، بلغ عددها ٢٠ مجلة، كتب فيها أسماء مثل برتراند راسل، وجورج أوريل، وأندريه مالرو، وسارتر، وسيمون دى بوفوار، وتقول الكاتبة إن المخابرات الأمريكية استخدمت بعضهم دون أن يدرى، فى حين كان البعض الآخر على وعى تام بما يقوم به، وتعود الكاتبة لسلسلة تحقيقات نشرتها نيويورك تايمز عام ١٩٦٦ ذكرت فيها الأسماء السابقة، بالإضافة لأسماء أخرى، ويتحدث الكتاب أيضًا عن آليات عمل المخابرات، وكيف أنها كانت تلجأ لتجنيد أفراد من داخل الدول الشيوعية ليظهروا فى شكل منشقين، وكيف أن هذه طريقة ناجحة وناجعة أكثر من الهجوم على هذه البلدان من أناس لا ينتمون لها، ويتحدث الكتاب أيضًا عن رعاية المخابرات الأمريكية لمدرسة ماركسية أخرى مختلفة عن المدرسة الستالينية هى التيار التروتسكى «يعرف فى مصر باسم الاشتراكية الثورية»، والتفاصيل فى الكتاب كثيرة، وموحية، وليست فى حاجة لاستنطاقها، ولا للى عنقها، ما يمكن أن أقوله إن تخيل توقف هذه الحرب الثقافية مع سقوط الكتلة الشرقية هو محض سذاجة، كل ما فى الأمر أن الهدف أصبح متغيرًا، وأن اسم «العدو» أصبح متغيرًا، وأن أسماء المتعاونين «سواء بعلمهم أو بغير علمهم»، كما يقول الكتاب، تغيرت بكل تأكيد.. لقد تناول الكثير ممن يوصفون بالنشطاء موضوعات مثل «حروب الجيل الرابع» بأكبر قدر من الاستظراف والجهل أيضًا، فى حين أنهم لو قرأوا كتابًا جادًا مثل هذا الكتاب لأدركوا أن الأمر جد لا هزل فيه.. أما إذا كان بعضهم يدرك الحقيقة، ولا يرى مانعًا من أن يكون عميلًا لمن يدفع، فهذا موضوع آخر.