رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجل الحرب والكذب

إثر إصابته بفيروس «كورونا المستجد»، رحل الجنرال كولن باول، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، أمس الأول الإثنين، عن ٨٤ سنة، قضى أكثر من ثلثيها فى الحرب والكذب، وجعل الدبلوماسية الأمريكية ترتدى الخوذة بدلًا من القبعة الأنيقة، ودخل التاريخ من أكثر أبوابه سوادًا، ليس باعتباره أول أمريكى أسود يتولى منصبين كبيرين، ولكن بمشاركته فى اختلاق وترويج واحدة من أكبر الأكاذيب فى تاريخ البشرية: أكذوبة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.

كان مستشارًا للأمن القومى، سنة ١٩٨٧، حين تورطت الولايات المتحدة فيما يوصف بـ«الحروب القذرة» فى أمريكا الجنوبية، التى دعمت خلالها جماعات «الكونترا» اليمينية، شبه العسكرية، فى نيكاراجوا. وقبلها كان مساعدًا لوزير الدفاع، كاسبار واينبرجر، وشارك فى تنسيق قصف ليبيا، سنة ١٩٨٦. وبينما كان يترأس قيادة الأركان، غزت الولايات المتحدة بنما، فى ديسمبر ١٩٨٩، وأطاحت برئيسها مانويل نورييجا، فى خطوة أدانتها الأمم المتحدة بشدة.

تحت إدارة جورج بوش الأب، صار «باول» أول رئيس أسود لهيئة الأركان المشتركة، وهو أعلى منصب عسكرى فى وزارة الدفاع الأمريكية. وتحت إدارة بوش الابن، شغل منصب وزير الخارجية، كأول أسود، أيضًا، يصل إلى هذا المنصب. وفى ٥ فبراير ٢٠٠٣ ألقى خطابه الشهير أمام مجلس الأمن، الذى تفوق فيه على «جوبلز»، وزير دعاية هتلر، وعرض صورًا ملفقة قال إن الأقمار الصناعية الأمريكية التقطتها لمواقع أسلحة الدمار الشامل المزعومة، التى لم يجدوا لها أثرًا بعد أن صودرت سيادة العراق باحتلال أراضيه وتفكيك مؤسساته.

بخلاف هذا التبرير، كان الهدف المعلن للحرب هو تغيير النظام، وإقامة نظام بديل. غير أن الغزو الأمريكى لم يغير النظام، بل هدمه وهدم الدولة معه، وخلق حالة فراغ ملأتها الفوضى والإرهاب. ومع ذلك، ظل «باول» يتحدث عن خريطة جديدة للشرق الأوسط، إلى أن أكد تحقيق لجنة المفتشين الدوليين عدم وجود أسلحة دمار شامل، فاضطر إلى الاعتراف بالكذب، وظهر على قناة «إيه بى سى»، فى ٩ سبتمبر ٢٠٠٥ ليقر بأن ذلك كان وصمة عار فى مسيرته. 

بوصمة عار شبيهة خرج «باول» من حرب فيتنام. إذ تم تكليفه بالتحقيق فى رسالة من جندى فى الخدمة، تؤكد قيام جنود أمريكيين بقتل مئات المدنيين، من بينهم نساء وأطفال. وانتهى التحقيق إلى تبرئة القتلة، زاعمًا «العلاقات بين الجنود الأمريكيين والشعب الفيتنامى ممتازة»، وهو الزعم الذى لم يصمد أمام الأدلة المتزايدة التى انتهت بنشر تفاصيل المذبحة.

النشاط السياسى الأخير لوزير الخارجية الجمهورى الأسبق، كان ظهوره على شاشة «سى سى إن» ليعلن تأييده لجو بايدن، مرشح الحزب الديمقراطى، فى انتخابات الرئاسة السابقة. بعد أن كان قد فاجأ الجمهوريين، والأمريكيين إجمالًا، قبل أسابيع من انتخابات ٢٠٠٨، وأعلن فى قناة «إن بى سى» عن دعمه المرشح الديمقراطى باراك أوباما، بزعم أن «كل الأمريكيين، وليس فقط ذوى الأصول الإفريقية سيكونون فخورين بفوزه». ولأن بايدن كان نائبًا لأوباما، يمكنك استنتاج أن «باول» انحاز لـ«لونه» بأثر رجعى، على حساب مرشحى حزبه.

نعم، بأثر رجعى، إذ كان يتجاهل التمييز ضد ذوى البشرة السمراء، الذى بلغ مداه فى عهد جورج بوش الأب، ودفعه سنة ١٩٩٢ إلى الاستعانة بالجيش، الذى كان «باول» يتولى أرفع منصب فيه، للسيطرة على أعمال شغب شهدتها لوس أنجلوس بعد تبرئة أربعة رجال شرطة قتلوا رجلًا أسود. كما لم تهتز له شعره، أمام حوادث أخرى شبيهة خلال عهد بوش الابن. ما جعله نموذجًا للضحية، التى تصبح أكثر شراسة من جلّاديها، بعد تصعيدها، والاحتفاء بها، والتهليل لها، داخل الولايات المتحدة وخارجها، باعتبارها سوابق أولى فى تاريخ تلك الدولة.

.. وأخيرًا، لا نعتقد أن التاريخ سيلتفت إلى رحلة كفاحه المزعومة، أو مذكراته، التى صدرت تحت عنوان «رحلتى الأمريكية». بالضبط، كما لم يلتفت أحد إلى ظهوره فى إحدى حلقات الموسم الخامس من المسلسل التليفزيونى «Madam Secretary»، الذى تم عرضه سنة ٢٠١٨، وقامت ببطولته تيا ليونى!