رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المولد النبوى والوجدان المصرى

فى ظل الصرامة والتكاتف الاجتماعى الذى كان إحدى السمات البارزة فى علاقة الجماعة الشعبية فى سبعينيات القرن الماضى وما قبلها، كان من الصعوبة أن تتحرك تاركًا مكانك ذاهبًا للمدينة دون موافقة صريحة من الكبار أو فى رفقتهم، لن تستطيع الوصول إلى محطة القطار أو الأتوبيس، فالكل سوف يسألك: على فين العزم؟ وسيبدو واضحًا من ملابسك المعتنى بها وحذائك، وأيضًا الأيام التى تحمل مناسبة معينة، مقصدك، حتى لو تعللت وذكرت أشياء أخرى، حتى يأتى السؤال واضحًا دون لبس: ناسك عارفين؟ فإن كانوا عارفين فلمَ أنت وحدك؟ فى هذا لن تكمل الجدال مع اللجلجة، وستعود خائب الرجاء، فى حال الموافقة لن تكون خائفًا أو زائغ العين أو مرتجف الأطراف والخطوة؛ بل واثقًا، سعيدًا، غير حافل بأى من يواجهك، والقصد هو الذهاب للمدينة لحضور الاحتفال بالمولد النبوى الشريف.

جوقة من الأولاد كنّا، أغلبنا أقارب، سوف نمر على أقربائنا فى المدينة فى البداية قبل الذهاب لساحات المولد وشوادر الإنشاد، وملاعب المراجيح والسيرك، و«الشيكوبيكو»، والعروسة التى تتكلم، سنمسك بأيدى بعضنا بعضًا، فالزحام الشديد، وهو إحدى المباهج الفعلية فى المولد، قادر على أن يجرفنا، وساعتها الضياع هو النتيجة المؤكدة، وستنقلب البهجة لحزن وبكاء.

من الأخطاء الشائعة أن يرد كثير من الدارسين والباحثين عادة الاحتفال بالمولد النبوى، والاحتفالات الدينية الأخرى، خاصة بالأولياء أو الليالى المميزة دينيًا لدى المسلمين- إلى العصر الفاطمى، وكيف أنهم، أى الفاطميون، أشاعوا فكرة الاحتفال وثبتوه داخل الوجدان الشعبى المصرى، حتى أصبح عادة لا يمكن تجاوزها أو تخطيها، أقول إن هذا خطأ بيّن، وعدم فهم لطبيعة الروح المصرية وعقليتها، وهى التى احتفلت قبل دخول الإسلام لمصر فى كل أرجائها بآلهتها المحلية أيام الدولة الفرعونية، حيث كانت تحتفل كل مقاطعة وإقليم بالإله المحلى الخاص بها سنويًا، قبل أن تعم البلاد كلها الاحتفالات العارمة بآمون رع، وحين تحولت للديانة المسيحية حولت هذه الاحتفالات نحو قديسيها، والذى لا يزال يجرى حتى الآن، كالاحتفالات بمولد العذرا، أو القديس مار جرجس فى أرمنت الصعيد، وغيرها بالطبع الكثير، فالاحتفال هنا ليس دلالة على قوة المعتقد الدينى والتعلق الروحى الشديد بالأولياء أو الأنبياء وفقط، لكنه بالأساس تعبير عن هذا التعلق، وعلى الجانب الآخر الاحتفال ليس دينيًا صرفًا، فالجانب الدنيوى يسير جنبًا بجنب الجانب الدينى، فالبيع والشراء وأيضًا أدوات الترفيه واللعب كل ذلك متجاور دون غضاضة، فخارج شوادر الإنشاد الدينى ستجد البائعين يعرضون أنواعًا مختلفة من البضائع، نستطيع أن نقول بأريحية شديدة إن الاحتفال هو احتفال اجتماعى عام قبل أن يكون احتفالًا دينيًا خالصًا.

يذهب المعتقد الشعبى إلى أن البلاد والعباد محاطون برعاية وعناية الأولياء، وأنهم فى رباط يصد عنهم غوائل الدهر ومكائد الزمان، ومن ثم يتم اللجوء إليهم فى كل مناحى الحياة، ليس فى حالات الكرب فقط، كما قد يتصور البعض، لكن حتى فى حالات الفرح ستجد الناس يذهبون للأولياء تبركًا وشكرًا، غير أن الأهم من ذلك هو الاحتفالات السنوية التى تقيمها الجماعة الشعبية لذلك الولى المنوط به حماية الجماعة ورعايتها، وهذا ليس ببعيد عن الفهم العام لدولة الأولياء التى تحكم هذا العالم وتعمل على تصريف شئونه فى كل مناحى الحياة.

وقد ثبتت الجماعة الشعبية عددًا من المناسبات الدينية كى تقيم فيها تلك الاحتفالات، كالليالى الأولى من شهر ذى الحجة فى احتفالات القطب الكبير أبى الحسن الشاذلى فى حميثرة، وليلة السابع والعشرين من رجب، وليلة النصف من شعبان، ربما كانت هذه الأخيرة هى من أكثر الليالى التى تقام فيها الاحتفالات فى عدد من البلاد والقرى بشكل متوازٍ، ذلك لما تمثله هذه الليلة من قدسية لدى الجماعة الإسلامية، فهى الليلة التى تُرفع فيها أعمال العباد للعرض على الخالق، وبداية لعام جديد.. هذا بالطبع غير الليالى التى توافق إما يوم مولد الولى أو يوم وفاته، أو كما فى التعبير عند الجماعة المتصوفة: يوم حجز الولى، فالولى لا يتوفى بل هو يحجز.

تعتبر جبانة أسوان واحدة من أكبر تجمعات الأولياء، حيث إنها تضم مقامات لأغلب الأولياء الكبار والصغار على حد سواء، فالجبانة قديمة وبعض شواهدها يحمل أسماء بعض صحابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما أشارت الدكتورة سعاد ماهر فى دراستها، وتوجد بها قباب فاطمية لا تزال قائمة، وهو ما دعا البعض لإطلاق اسم الجبانة الفاطمية عليها.. والمقامات ليست بالضرورة أن يكون الولى مدفونًا فى المقام، يكفى أنه أشار إلى أحد أتباعه، أو أتاه فى منام ورؤيا، هكذا ستجد مقامات للسيدة زينب والسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى والجيلانى والجعفرى وغيرهم الكثير، ولن يمر يوم، أقصد الليلة بالطبع، إلا وبالجبانة احتفال بهذا الولى أو ذاك، ليس احتفالًا شعبيًا كبيرًا، لكنه احتفال بسيط محدود يقيمه بعض مريدى الولى، وما بين العشاء والأوراد الخاصة والأذكار والحضرة، يتم ذلك عقب صلاة المغرب ويمتد قليلًا بعد صلاة العشاء، لكنك لن تعدم وجود بعض المتبركين الذين يأتون فى أوقات مختلفة لهذا الولى أو غيره، كل حسب مشربه.

هذه الجبانة هى التى سوف تحتضن الاحتفال الشعبى الكبير الذى يقام بمناسبة المولد النبوى الشريف، حولها- أى الجبانة- سوف تقام سرادقات الطوائف الصوفية لتشهد عقب عشاء الليلة الأخيرة وجود المنشدين الكبار فى تلك السرادقات التى تمتد سهرتها حتى طلوع الفجر.. فى عصر ذلك اليوم ستتجمع الطوائف الصوفية بالقرب من مبنى محافظة أسوان لتأخذ طريق كورنيش النيل جنوبًا حتى الجبانة وسط أهازيج المتصوفة وأذكارهم ولعلعة أصوات المشايخ الكبار، هناك سيكون باعة الحلوى والملابس الرخيصة والأحذية وكتب الأذكار والأعشاب قد فرشوا بضائعهم على طول الطريق المحيط بسور الجبانة وبين السرادقات، فالاحتفالات هنا لن تأخذ فقط الجانب الدينى، لكنك ستجد النشاط التجارى قائمًا جنبًا إلى جنب، ولن تعدم وجود حلقة للتحطيب يتبارى فيها أبناء النواحى والقادمون من القرى والمحافظات القريبة.

تشهد الليلة الكبرى إقبالًا كبيرًا، ويمتد السهر بها حتى طلوع الفجر، فتلك الليلة عامرة بكبار المداحين والمنشدين، وسيسارع أرباب الطرق الصوفية للاتفاق معهم حتى يكونوا مصدرًا لجذب الحاضرين نحو سامرهم.. ستجد المشايخ: أحمد برين، ومحمد العجوز، وعبدالنبى الرنان، ومحمد أبوالضوى، رحمة الله عليهم، فى السنوات السابقة، بينما الآن ستجد الشيخ ياسين التهامى، وابنه الشيخ محمد، وكذا الشيخ أمين الدشناوى، وكثيرين غيرهم، بينما تكتفى الطرق الصوفية الصغرى بعمل الحضرة فى سامرها وورد السلسلة وبعض الأذكار، وستجد الذكر عامرًا بها قبل بدء المشايخ الكبار، وتجد الدراويش طوافين على السرادقات، والفقراء والمحبين والقادمين من أجل الفرجة فقط، فالكل ذاهب للمولد لحاجة، أما أهل الحضرة فقد أدركتهم النظرة.

محبة لروح د. صلاح الراوى