رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البهجة تسيرعلى قدمين فى شوارع هذه المدينة

#أول_زيارة_لمصر
القاهرة لا تغمض عينيها بتاتا ، و أناسها يقدسون الحياة و الفن و الطعام .. 
أعتقد أن هذا مايفسر وجود مطعم أو "عربية" 
فول ، سجق ، أو كبدة بين كل محل و آخر ..

موظفوا المطاعم لايملكون في الmenu شيء اسمه "شطبنا" ..

الأبواب مفتوحة على الدوام و القلوب قبل ذلك مع ابتسامة نقية كدعوة طفل .

الواحدة بعد منتصف الليل ..
تغلق محطات المترو
و تفتح المدينة قلبها للغرباء ، 
في كل شارع لوحة متحركة 
داخل كل وسيلة نقل مشهد سينمائي ،
في كل فم لقمة أو غنوة أو شتيمة تخرج بطريقة فنية  ،

الحياة هنا تحتاج إلى مراقبة بدقة قناص
و أذن موسيقية لتستوعب الفن الذي يحيط بك من كل جانب ..

كنت أفكر كثيرا كيف يجرؤ الناس على الثمالة هناك !
أقصد السياح ..

كنت طيلة المدة الماضية أنام لخمس ساعات أو أقل حتى لا يفوتني شيء بالخارج 
عقارب الساعة في القاهرة تنزلق على قشرة موزة
و أنه لحقا كما يقال
"أن 24 ساعة هناك لا يمكن أن تعتبرها يوما"

الحياة لا تتوقف و لا يمكنك أن تعرف حقا أيهما أجمل
القاهرة صباحا أم ليلا .. 
في كل أحوالها تقهر  الرتابة  و تمزق خرائط طريقها إليك
و تفقأ عينيها حتى تضلها عن سبيلك .. هذا ماشعرت به .. و لم أشعر أني قد غادرت بلدي قط ..لم أشعر بالغربة على الإطلاق

و أنت ستتفهم هذا لاحقا ، ستعاقب نفسك -حينما تعود إلى بلدك-
على كل رجفة راودت جفنك في فترة اقامتك .

**

من كافي ريش إلى طلعت حرب ، جففت شاربي من بقايا شراب قصب السكر البارد ( أكاد من فرط الجمال أذوب) و أفسحت المجال لمخيلتي لإبتلاع كل ما أمر به .. 
باعة الجرائد ذوي الملامح المنحوتة ، عربات السجق الملونة ، أم علي ذات الطبقة المحمرة ، رجل المرور الضحوك، 
حتى تمثال بلوتو الذي يوشك على التحرك من فرط صخب سماعات التوكتوك و يصرخ بلكنة شعبية " إخوااااتي إخواااتي"

و المعلمين القدامى يدحرجون النرد و يدعونك لشرب الشاي بطريقة مختصرة  "تعااا اشب شاي"

و كوبري النيل
حيث لاتجد النسمات الباردة مساحة بين
الأصابع المتشابكة
قبل أن يخبر الرجال زوجاتهم بأنهن زي العسل دون أن يخجلوا من الحاضرين بالطاولات المجاورة الذين أنهوا للتو أراجيل التفاح
و طلبوا سحلب بالفواكه ..!

النيل بالأسفل يتوقف لبرهة
ليبتلع أعقاب سجائر باعة الفشار
و يكمل طريقه أسفل السفن المضيئة التي يبدو إنها لا تسير إلا بالموسيقى ..

الموسيقى تحرك كل شيء هناك
حتى الحزن يرقص على وحدة و نص .

عند مرورك بقناديل و روحانيات ميدان السيدة زينب ، ستقتنع بأنك سافرت عبر الزمن
و أنك تسمع بوضوح إحتكاك حدوات أحصنة المماليك بالأرضية الصلدة و صياح تحذيرات رماة الأسهم من أعلى البرج الشاهق كدهشتك 
عند نزولك بمصر لأول مرة .

**

اليوم التالي كان قد فاتني الإفطار في بوفيه الفندق .. و لأن ساعة معدتي معطلة وجدت نفسي أتناول وجبة في مطعم أجنبي وحيدا ، فوق أنه لايمت لأجواء البلد بأي صلة .. لم أشعر بالرضى

حتى غادرت فندق "توليب جولدن بلازا" رفقة أحد سائقي تطبيق uber الهادئين
الذين يسألونك فقط "الساعة كام" حتى يضعوا اجابتك تحت جهاز كشف الجنسيات السريع
ليتأكدوا من أنك لست مصري .. 
عليك أن توفر ألاعيبك هنا 
لأن اخفاء لهجتك الأم تشبه محاولة اخفاء جثة ..
أقصد أن الرائحة تفوح في كل مكان و بصماتك واضحة الجميع كشف أمرك .. 
لا ينقصهم سوى اعترافك !

من ليبيا 
قلت للمحقق أقصد السائق في نصف الرحلة
بينما كنا نعبر الشوارع المحاصرة بأدخنة الزيوت الحارة المشبعة بالتوابل و المباني العتيقة التي تتدلى منها حبال الغسيل المرتخية ..

- "أحسن ناس .. رد السائق بصوت ناعس ."

كنت أود أن أحدثه أني أعرف كل البلد عن ظهر قلب رغم أنها أول زيارة لي بها .. أعرف خوفو و أنوبيس و مقهى نجيب محفوظ و محطة مصر و ميدان المطرية و نفق الأزهر و الست و العندليب و عبدالوهاب و القصبجي و هند رستم و حتى عادل شكل الزعامة .

لكن ضحكت فجأة عوضا عن ذلك
حين صادفني كافي يجذب المارة بعبارة مغناطيسية "ماتيجي ندخل"
كان واضحا أن صاحب الفكرة فنان و أختصر الshow
في كلمتان خفيفتان يملئان مسرح خيالك  بالتكهنات و يسيل لعاب فضول المارة .

لا أعرف لماذا آنذاك تذكرت صديقي الشهم جدا محمد جلال حين كان يخبرني بلهجة صعيدية تمتزج بين الطيبة و الكوميديا عن الدعايات التي صارت بلا فرامل وتستخدم أي شيء للترويج للمنتجات ..
تأبطت نكتة صديقي و وصلت للمطرية

حيث كان في انتظاري الرفاق مع وجبة كشري ساخنة مغدقة بالشطة

صحن دسم تتصاعد منه رائحة التوابل و بخار ساخن يخرج لسانه لبرد الشتاء و يجعلك تفكر في خلع معطفك و تطلب علبة بيبسي

غير إنها أحد عاداتي التي تغيرت هنا و حل محلها الشاي ..

"إحنا هنا نحبس بالشاي بعد الأكل"

هكذا أقترح صديقي .. 
عدت إلى بلدي حاملا معي عاداتكم و نسيت شيئا مني هناك ..

من المؤكد أن القاهرة دللتني حتى أنستني بأنني لم أنزل بها ضيفا ..
حتى بعد أن غادرتها
لم تغادرني قط .