رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوهام «التدين الشعارى» تتحطم على صخرة الواقع

اعتاد لسان المصريين على إفراز التعابير الدينية كما يفرز الكبد الصفراء، فالكلام يجرى على ألسنتهم مكللًا بعبارات تحضر فيها السماء بشكل مستمر، فكل أمر بمشيئة الله، وكل شىء بقدر الله، وكل حدث تُحركه يد الله، وكل خطوة تحرسها عناية الله، وحين تضل به السبل يحفظه الله، وحتى إذا تعثر فـ«اسم الله عليه».. اسم الله يتردد على لسان الكثير من المصريين فى كل اللحظات والمواقف. 

التدين اللسانى حالة، عادة ما يدارى بها اللسان فشل الإنسان أو إخفاقاته أو أخطاءه أو عجزه، ورغم أن الإيمان بالله هو بالأساس مصدر قوة، نجده عند بعض المصريين مظهرًا لمداراة الضعف وستر الانكفاء.. تعوّد المصرى على «التدين تحت راية» فأصبح دينه شعارات تتردد، وأقوالًا تتكرر، ومسيرة فى ركاب درويش أو شيخ، يصح أن نصفه بشيخ الطريقة المصرية. 

غلبت على بعض المصريين شقوة التدين اللسانى خلال أحداث الثورة العرابية أواخر القرن التاسع عشر «عام ١٨٨٢»، وهو التدين الذى يتمحك بالسماء فى كل فعل وقول، ويدفع صاحبه إلى الاختباء وراء كلمات «القضاء والقدر» و«إرادة السماء» للتستر على عجزه وفشله. 

كان الدين حاضرًا خلال الإرهاصات الأولى للثورة، والتى ارتبطت بالتدخل الأجنبى فى الاقتصاد المصرى، الذى نتج عن تراكم الديون على الحكومة أواخر فترة حكم الخديو إسماعيل، فقد عاشت البلاد أزمة مالية طاحنة فاقترح عليه ناظر ماليته «إسماعيل المفتش»- وشقيقه فى الرضاعة- اللجوء إلى الرعية لمساعدته ضد تحرش القوى الأجنبية به، وأن يستعين فى إقناعها بأحد مشايخ «الطريقة المصرية».. جاء الخديو بالشيخ واستفتاه فى الأمر الذى آلت إليه مالية البلاد ومدى شرعية الاستعانة بمال الرعية فى حل المشكلة، فأفتاه الشيخ قائلًا: «إن الأموال أموال سموكم، وإننا جميعًا بمالنا ونسائنا وأولادنا عبيد لسموكم، والعبد وما ملكت يداه لمولاه».

كان الداهية «إسماعيل المفتش»، ناظر المالية الخديوية، خبيرًا بالنفس المصرية والقوى الدافعة لها، وأولاها قوة التعصب الدينى، والتعصب للدين الرفيق الأكثر إخلاصًا لفكرة «التدين اللسانى»، لذا فقد نصح الخديو بالدخول إلى المصريين من خلال الدين، وكان «المفتش» يعلم أيضًا أن عطش المصرى إلى فكرة الإصلاح كبير، وأنه يود العيش الكريم مثل غيره من بنى آدم، وقد ظل سنين مؤمنًا بأن سياسات الخديو هى السبب فى تعكر مزاجه المعيشى، لكن «المفتش» تمكن بحرفية من أن يوجه هذه الطاقة السلبية إلى الإنجليز الذين يريدون احتلال البلاد ونهب خيرها، لكن لأن التدين المصرى كلام ولكلكة لسان، فإن الرعية لم تفعل شيئًا لباشا مصر، وأخذت الأزمة المالية تتفاقم، فتأخرت رواتب الموظفين، وشحّت الأرزاق بصورة أنذرت بما هو أدهى.

صدر فرمان بعزل إسماعيل وتولية الحكم لنجله محمد توفيق باشا، وفى عصره وقعت الواقعة وحدثت مذبحة الإسكندرية «١١ يونيو ١٨٨٢» التى اتخذها الإنجليز ذريعة للتدخل العسكرى فى مصر.. أطلق «عرابى» نفير الجهاد الدينى للدفاع عن مصر، وانطلق صوته الإعلامى «عبدالله النديم» يجلجل بتهيئة المصريين نفسيًا وإقناعهم بسهولة التحدى الذى يواجههم، وأن مدافع عرابى من ناحية ومدافع الدولة العلية «دولة الخلافة» من ناحية أخرى قادرة على هتك القوات الإنجليزية وهزيمتها هزيمة ساحقة. انطوى خطاب النديم على خلط واضح بين الحقائق والأكاذيب، لكنه فى كل الأحوال كان يتسق مع التركيبة النفسية والمزاجية للإنسان المصرى المؤمن بفكرة الاستقواء بالسماء.

حسابات عديدة خاطئة وقع فيها «عرابى» أدت إلى سير الأمور فى معركة كفر الدوار، ثم التل الكبير، على غير ما يحب المصريون الذين تطوعوا لصد الهجوم على بلادهم.. دار رأس الزعيم باحتشاد البسطاء من خلفه، وبتقرب أعيان مصر منه، وتزلف سيدات البيت العلوى إليه.. وجد «عرابى»، الفلاح البسيط، نفسه فجأة فى بؤرة الأحداث، ولأنه- مثل غيره- مستسلم لفكرة «التدين اللسانى»، فقد شعر بأن الأقدار التى وضعته فى صدارة المشهد كفيلة بأن تحفظه حتى النهاية بعيدًا عن أى حسابات عقلية يلفت من حوله النظر إليها. 

يقول «بلنت»، صاحب كتاب «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر»: «راح عرابى يسير بطريقة حالمة فى الطريق الذى رسمه له الحظ، وكبرت فى رأسه خرافة المصير الذى رسمه له القدر، وأن العناية الإلهية بعثته منقذًا لهذا الشعب.. تديُّن أحمد عرابى هو الذى دفعه إلى تسليم نفسه لرجال الدين، الأمر الذى جعل الرجل يمضى أكبر جزء من وقته مع رجال الدين فى الأدعية والتلاوات بدلًا من تمضيته فى مهامه الدنيوية الخاصة بتنظيم وتقوية الدفاع، ويبدو أن هذه العادة استمرت مع عرابى حتى النهاية».

فى لحظات التوتر الكبرى كثيرًا ما يقفز ما فى داخل النفس إلى خارجها، لتتوارى حسابات العقل وراء ظلال كثيفة من أشواق النفس.. كان «عرابى» مثل كل المصريين وطنيًا مخلصًا وحالمًا كبيرًا بالحياة العادلة، لكنه كان يماثلهم أيضًا فى تغليب أحلام اليقظة على أحكام العقل والحسابات الواقعية.. كان المصريون البسطاء يتحركون بالطريقة نفسها، ورغم ما دوت به ألسنتهم من هتافات لعرابى وحياة عرابى، إلا أن أغلبهم انصرف عنه فى هدوء عندما أصدر السلطان العثمانى فرمانًا بعصيان عرابى وخروجه عن خليفة المسلمين!، ربما لم يكن لدى بعضهم قناعة فى السلطان ودولته العاجزة عن صد الإنجليز، لكن تدينهم اللسانى غلبهم، فقناعتهم بالخلافة كمظهر تفوقت على شكهم فيها على مستوى المخبر.

هكذا انتهت هوجة عرابى، كما سماها المصريون أيامها، وانقسم المصريون إلى فريقين: فريق يرى أن اندفاع عرابى هو السبب فى احتلال مصر، فى حين رفع فريق آخر شعار: «الولس كسر عرابى»، منوهين إلى أن السبب فى هزيمته مردها خيانة الجميع له، لكن كلا الفريقين لم يتأمل نفسه وأحواله ليرى الحقيقة التى تقول إن النفس التى لا تنتصر على ضعفها لا بد أن تحالفها الهزيمة.