رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحلام لا تنتهى

فى بداية الأمر تعاملت مع كتاب «مذكرات عزة فهمى» الصادر مؤخرًا باعتباره سيرة فنانة «عصامية» صنعت لنفسها مسارًا تجاوز الحدود، واستطاعت بدأب وصبر أن تجعل من اسمها «علمًا» أو ماركة أو «براند» عبر توثيق تاريخ مصر، بصياغة السوار والعقد والحلق، فعلًا وضعتها فى مصاف المؤرخين بوسيط آخر غير الكلمات، هو معدن الفضة، واعتبرت أن تفردها كان فى الكيفية التى طوعت بها المعدن، حين بثت فى مادته الصلدة كوامن «الروح المصرية»، فصار بالإمكان أن تستقرئ زوايا من زخم مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية عبر المصاغ.

وعلى الرغم من أن الظروف سمحت لى بفرصة تبادل وجهات النظر، أحيانًا، مع عزة عبر دردشات طويلة، وعلى الرغم من الاطلاع على بعض أجزائه أثناء العمل، إلا أن كتاب «مذكرات عزة فهمى.. أحلام لا تنتهى»، الذى صدر عن الدار المصرية اللبنانية هذا الأسبوع، كان مفاجئًا لى فى صورته النهائية، نصًا وإخراجًا وطباعة، الكتاب الذى راجعته عزة «ثلاثين مرة» قبل أن توافق على الدفع به إلى المطبعة، عمل فنى ممتع يفيض بالتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجى.. حتة «صيغة» شفتشى.. مساحة دانتيللا..

غزلتها بنفس الدأب والقدرة على الغوص فى التفاصيل والدقة اللذين تتعامل بهما مع قطعها الفنية، فإذا بنا أمام نوع من «التأريخ» الجاد والصادق، لما كاد أن يفلت من بين أصابعنا أو ما قارب على الاندثار لحرف ومناطق وشخصيات وأحياء وتقاليد مهن ومدن، كل ذلك بالتوازى مع سيرة إنسانية لمكابدة «اصطياد الحلم»، أو الأحلام التى لا تنتهى، وهذا ما عنونت به عزة فهمى كتابها «مذكرات عزة فهمى.. أحلام لا تنتهى».

من أى زاوية تختارها سوف يستغرقك «مشوار عزة»، لأنك سرعان ما سوف تكتشف أنك إزاء خطين متوازيين، سرعان ما توحدا فى مشوار هذه المبدعة، سيرتها التى ناطحت فيها الظروف وسيرة الوطن نفسه موزعة ومتخللة فى كل مسام هذا العمل الممتع والمحفز.

اختارت عزة نوعًا من الحكى الذى يشعر قارئها بالألفة، لم تفتعل لغة ولا أسلوبًا، لكنها تسامرت مع المتلقى، كما تفعل فى حياتها وعملها، بلغتها اليومية «العامية» التى اغتنت ببلاغة الصدق.. تأتى هذه السيرة الملهمة فعلًا فى لحظة نحن أحوج ما نكون فيها إلى «المعنى»، الذى يجعل الطريق إلى تحقيق الحلم غير مشروط إلا بوضوح الهدف، ثم الإصرار، مهما كان الطريق وعرًا، وفى هذا السياق السيرة متخمة بتفاصيل حقيقية.. هذه السيدة التى تحتل صورها مجلات «فوربس» المعنية بنجاح أصحاب الأعمال، والتى تطوق قطعها أعناق وأذرع أثرى أثرياء المشاهير، والتى صار اسمها وحده ضمانًا للإبداع الراقى الواثق الهاضم للتاريخ، هذه السيدة كانت فى وقت من الأوقات ترتق جواربها؛ لتجعلها صالحة لأطول فترة، وتختار أن تقطع المسافة سيرًا على الأقدام من مكان وظيفتها الأولى فى هيئة الاستعلامات بميدان التحرير إلى خان الخليلى والصاغة، حتى تتمكن من شراء «سندوتش» يحتوى على بيضة مسلوقة يسد الجوع.

تشبه عزة فهمى فى سبيكتها الإنسانية «الشغل الشفتشى» فى الذهب.. منمنمات: يتم تحويل خامة الذهب بالصهر إلى خيوط، تتحول الخيوط إلى غزل شديد الرهافة والدقة، منه تتشكل الزهور والنجوم، الأهلة والشموس، فى الكردان والحلق.. وهكذا كانت حياة عزة فهمى وضفيرة جذورها المصرية السودانية التركية موظفة هيئة الاستعلامات بعد دراسة الديكور فى كلية الفنون الجميلة، التى مرجحتها الحياة ما بين «رغد الحياة وهدهداتها» فى كنف أب ميسور، الموظف الكبير فى شركة إنجليزية للأقطان، وطفولة وصبا كالحلم، ثم شظف وكد وشظف نفس الحياة بعد رحيله والانتقال إلى حلوان.

سوف تدهشك الذاكرة السمعية البصرية التى تنقلك بها عزة فهمى إلى ثنايا حياتها، فتعرف وتشم وتستنشق سوهاج وبهجة السنوات الآمنة وشخصية الأب شديد المصرية وثراء تجربته الحياتية والمعرفية التى سوف تتسرب إلى مسام عزة لتصبح رافدًا أساسيًا فى مجمل تجربتها.

عزة «ذاكرة متحركة» وحكيها مرئى مسموع، لكنها أيضًا أرشيف متحرك لا يترك شاردة ولا واردة بغير وثيقة، والوثيقة قد تكون صورة، خطابًا، هامشًا من كتاب، رسمًا.. إيصالًا لتذكرة إعلان، وبمناسبة الإعلانات يحوى الكتاب مجموعة نادرة من الإعلانات المصورة من أول باتا والصابون النابلسى حتى زجاجات اللبن المبستر الذى كانت تنتجه شركة مصر للألبان وسعر الزجاجة ثلاثة قروش، صفحة من «الوقائع المصرية» عندما أرادت أن تعرفنا على عمل أبيها، موظف شركة الأقطان الإنجليزية، قدمت شرحًا لمعنى حلج القطن، جاءت به من مخطوط بدائع الصنائع فى تركيب الشرائع للعالم علاء الدين الكاسانى المتوفى ٥٨٧هـ مع خريطة لمحال القطن فى مصر، وألحقت أيضًا صفحة من الوقائع المصرية بتاريخ ١٧ مايو ١٨٨١ العدد ١١١٤ من قلم الزراعة، عن زراعة القطن دون أن تفوتها صور توضح أنواع القطن من الأشمونين وجيزة ٤٥ وغيرهما.

وافيًا، حتى المهم أنك طوال الوقت وعلى طول الصفحات التى يقرب عددها من الأربعمائة صفحة تنصت وترى فيلمًا روائيًا وثائقيًا واقعيًا وحالمًا فى نفس الوقت.. يحرضك الكتاب على الاستغراق فى تفاصيله التى رغم السنوات تبدو شهية، مغرية على الالتهام «طازة» بنار الفرن، لم تبهت أى تفصيلة حياتية فى رحلة حياة عزة من أول ما يجعل مهمة الاختزال والاختيار لما تقدمه للقارئ، مهمة ليست يسيرة.