رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنعيها وكأننى أنعى نفسى

عشقت الأدب ومن العشق ما قتل، قتلنى عشقى للأدب، أصابنى فى قلمى وفى قلبى، لم أعترض فهو النوع الوحيد من القتل الذى يعيد لى الحياة ويجدد اليأس المعربد فى جيناتى الوراثية، كل قصيدة جديدة تلتف حول أصابعى تضىء بقعة مظلمة، وكل قصة تأبى إلا أن أكتبها بدمى تعيد لى الثقة بأننى لن أنتحر لن أدمن المخدرات لن تهزمنى اللاجدوى لن ينام العبث معى فى فراش واحد.
هل هناك أجمل من أن تقتلنى موسيقى الأشعار ولذة صناعة الكلمات؟ ولكن أين يذهب عشاق وعاشقات الأدب فى مناخ يضع الأدب فى ذيل الأولويات والضرورات والمهمات؟ أين يذهب عشاق وعاشقات الأدب فى مجتمع يرفع شعارات «أهمية الأدب»، «سحر الأدب»، لكن الواقع يشهد على أن التعامل مع «الأدب»، هو من باب سد الخانات وملء الفراغات وتحسين الصورة ومن باب التسلية التى تدخل ضمن الكماليات والحياة المرفهة.
يؤكد الواقع أن الأديبات والأدباء هم آخر ناس يتم الاحتفاء بهم حيث تحظى الممثلات والراقصات والمغنيات ولاعبو الكرة وملكات الجمال وزوجات المشاهير بالاهتمام الإعلامى ومشاهد الإحتفاء.
مى زيادة 11 فبراير 1886 - 17 أكتوبر 1941، واحدة من زهرات الأدب العربى المقدر عليهن النسيان أو التجاهل وعدم الاحتفاء، 17 أكتوبر هذا العام تكون الذكرى الثمانون لرحيلها، ذلك الرحيل كلما داعب ذاكرتى نزف قلبى وابتأست روحى منذ أن تعرفت عليها أدركت التشابه بينى وبينها.
أين تذهب مى زيادة فى عالم تشغله أخبار عاشقات رؤساء الدول وأخبار طلاق ممثلة درجة عاشرة وأخبار السعال لمطربة يخلو غناؤها من الغِناء؟ أين تذهب أديبة رائعة وسط زفاف أولاد وبنات منْ نعتبرهم الناس الذوات؟ كيف نتذكرها وهى التى عاشت وماتت دون فضيحة واحدة مع حاكم أو رئيس أو لاعب كرة ولم تتزوج وتطلق عشرات المرات جذبًا للشهرة ولم نعثر لها على صورة واحدة وهى تقف ملوية الجسد أو مكشوفة الصدر أو وهى تطعم كلبًا من كلابها التى تقوم بتربيتها فى وقت الفراغ أو وهى تتفسح مع صديق نفطى الثروة على أحد اليخوت.
أين تذهب مى زيادة وقد كان شغلها الشاغل هو بناء صرح من الكلمات وليس بناء فندق سياحى أو شاليه فى الساحل الشمالى أو سوبر ماركت متعدد الطوابق أو بناء قائمة من العشاق المهرولين أو مركز للتجميل والتدليك أو محل لتصميم أزياء نساء يدفعن الملايين من أجل الفساتين وتسريحات الشعر والمجوهرات؟
لأن تكون مى زيادة امرأة مفكرة وشاعرة وأديبة ومتمردة فهذا فى حد ذاته أمر لا يفهمه الرجال وإذا فهموه يرجمونه بكل الإدانات، وإذا أضيف إلى هذا أن مى زيادة لم تكن فى حماية رجل له نفوذ رسمى سواء بالمعرفة أو الزواج، فإن التاريخ الرسمى يلفظها أو لنقل إنه لا ينصفها ولا يسلط الضوء الكافى الذى تستحقه على كتاباتها.
قد يحتفى المجتمع الذكورى بالمرأة التى تكتب عن كيفية المحافظة على الرموش ونعومة البشرة وراحة الزوج ولمعان الأثاث وإنطفاء الكرامة، أما المرأة التى تكتب عن الظلم الاجتماعى  والتفرقة بين البشر وضرورة إعادة صياغة العالم بالعدل والخير والحرية وتجعل قلمها مرادفًا للمعارك والسباحة ضد التيار وفضح التناقضات الاجتماعية والأخلاقية دون تردد أو "دحلبة" أو "ترقيع" أو "تراجع" فهى كاتبة وامرأة شيطانية ومتطرفة ومحرضة على الفتنة وإفساد المسلمات والموروثات وتفكيك دفء الأسرة الأبوية المتماسكة، كان لمى صالونها الثقافى والفنى كل ثلاثاء استطاعت بموهبتها وأخلاقها المستقيمة وثقافتها وعشقها للمباريات الفكرية أن تلف حولها فى هذا الصالون ألمع الشخصيات فى عصرها سواء فى مجال الفن أو العلم.
أدركت مى بحسها الفطرى أنها محبوبة ومرغوبة ليس فقط لتفكيرها الجرىء وكتاباتها المميزة،  ولكن أيضًا كامرأة، أدركت مى أنها لو استسلمت للحب أو الزواج فعليها أن تضحى برسالتها الأدبية والفكرية، هم رجال أدباء وشعراء ومفكرون ومتفلسفون ولكن هناك جزءًا بداخل كل منهم لو امتلكها بالعاطفة أو بالزواج فسوف يظهر على حقيقته ويعاملها معاملة الذكر الأعلى للأنثى الأدنى.
إن هذا المصير الذى اختارته مى أكبر دليل على موهبتها النابغة المختلفة جذريًا عن طموحات النساء، كن كاتبات أو عاديات، كم أديبة فى العالم تُفضل عناق الصفحة البيضاء على عناق حبيب؟ كم أديبة فى العالم تغفو مطمئنة النفس سعيدة الجسد مشبعة الأحاسيس وهى بين أحضان قصة أو قصيدة وليس بين أحضان حبيب أو زوج؟
"مى زيادة" موهبة نقية نادرة الخامة من أغلى الأحجار الكريمة خالية من شوائب الادعاء والتقليد، مثقفة العواطف راقية العقل متعددة القدرات متمكنة التجليات.. حقًا اختارت "مى" الطريق الأصعب أن تعيش "وحيدة" وتواجه العالم المدرب جيدًا منذ الأزل على اتهام واتعاس المرأة المتحررة من "ظل الرجل" و"كنف الزوج".
لم تبح "مى" بأسرار هذا الرجل رغم أنه ليس الأكثر ثراء أو وسامة، كيف لهذا الرجل أن يسحرها ويطمئنها ويكفيها ويحميها من خفافيش الليل وأشباح النهار يغنيها عن ملًذات وخداع الدنيا يضىء الدروب حينما تتعثر على الطريق يقوى إرادتها عند توافد المحن يشفيها من أمراض الجسد وداء الأوهام ومن سُم الكأس يفرز لها حلو الرحيق.. "القلم".
هذا العالم الذى يسيل لعابه مهرولًا ليل نهار وراء المسخ من النساء وأشباه الكاتبات، لا يستحق كاتبة وشاعرة مثل "مى زيادة".. عالم لا يلتفت إلى مؤلفات كاتبة متميزة أو شاعرة مختلفة إلا بعد أن تفوز بجائزة "نفطية" أو جائزة "نوبل" مخترع الديناميت، حينئذ فقط يتدفق إلى حد الانفجار الاهتمام بها وتتسابق الكاميرات على تصويرها وتتنافس الصفحات الأدبية والإعلام الفضائى والأرضى على لقائها.
كلما رثيتها ونعيتها أشعر كأننى أرثى نفسى وأنعيها، ربما لشدة التشابه بينى وبين "مى" ربما  نختلف فى أمرين، الأول أنها فى أواخر حياتها اتهموها بالجنون بينما أنا منذ البداية موصمة به، والثانى أن زمن "مى" رغم قسوته "كان لسه فيه شوية خير وشوية أدب وشوية شِعر" بينما أنا أعيش زمن التهليب والنثر الردىء والتعليب بدون حرب تٌسفك الدماء أعيش الإرهاب و"أخطف وأجرى وأعمل فلوس بأى تمن" زمن تكفير الأسئلة وشراسة الأوبئة.
ترى منْ فى هذا الزمن سيرثينى وينعينى فى ذكرى ميلادى أو رحيلى ولو بكلمة دون أن أفوز بجائزة النفط أو جائزة الديناميت؟

من بستان قصائدى 
انتصف الليل.. واكتمل الإرهاق
تتلألأ أنوار المدينة.. تنطفئ الأحلام والأشواق
انتصف الليل.. واكتمل الزهد
لا أسمع إلا الصمت.. ونداء الأوراق
انتصف الليل.. واكتمل حصار الذكريات
أخفى وجهى.. تحت الوسادة والملاءات
لكنها أصبحت خبيرة فى اقتحامى.. وبارعة فى التحايل وإيجاد الثغرات
انتصف الليل.. واكتمل وجه القمر
لكننى أريد وجه "أمى".. ولا أريد وجه القمر
انتصف الليل.. اكتملت آهات الألم
تتسارع محمومة دقات قلبى.. وبألف خير هو أنين الجسد
تهتز السماء.. تتساقط فوقى النجوم
لا أحد معى.. لا أحد