رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجمال الذى نفتقده فى شوارعنا

لن تتصف شوارعنا بالجمال والنظافة والتنسيق إلا إذا وضعنا هذا هدفًا أساسيًا يحرص عليه الجميع الدولة والمجتمع المدني .. مشكلتنا في مصر أننا نتجاهل الحفاظ على شوارعنا رغم أنها أمر محوري لابد أن يكون موجودا في حياتنا اليومية جنبا إلى جنب مع مشاريع الإسكان والإنفاق وبناء مدن جديدة وكباري وجسور، لابد أن تكون لدينا شوارع  نظيفة وفيها تنسيق وأشجار، ولابد أن تنتشر الحدائق والمساحات الخضراء، وأن تنتشر اللمسات الجمالية في شوارعنا جنبا إلى جنب مع تنشئة أجيال جديدة تنتمي للوطن، وتتم  تنشئتها على الانتماء للوطن والحفاظ عليه وحمايته من أي دخيل أو معتد أو مخرب، إلا أننا لم نستطع حتي الآن أن نجعل هذا يحدث، ولا استطعنا أن نجعل المواطن يحترم قواعد ونظام الشارع أو يعتاد على عدم إلقاء البقايا فيه؛ لأنه يفعل ذلك بكل بساطة وكأنه أمر عادي مع أنه سلوك خاطئ وسيئ.
ولا استطعنا أن نجعل المواطن يحترم سلوكياته ويحافظ على النساء والبنات فيه.. وتركنا التوعية بأهمية الشارع المصري وحسن السير والسلوك فيه والحفاظ على نظافته، دون أن نضع لذلك قواعد وأسسًا ونحرص على التزام المواطن بها، إن أول ملاحظة يقولها السائح عندما يزور مصر هي أن هناك فوضي عارمة في الشارع وازدحامًا شديدًا قالها لي أكثر من مرة زوار أجانب لمصر من نساء وشباب وفي إحدي المرات قالت لي مترجمة لبعض قصصي، وهي سيدة أمريكية تتحدث بعض العربية إلى جانب لغتها الإنجليزية.
أنا لا أعرف كيف تسيرون في الشارع المصري؟ فلا توجد مدينة بهذا الزحام الشديد والفوضى العارمة ولا لماذا يعبر المارة الشارع من منتصفه كما يريدون وليس من الأماكن المخصصة لعبور المشاة؟ إنها أسئلة بديهية، لم نحس في مصر أنها أمر عجيب وسيئ وخاطئ؛ لأنها تحدث يوميا في القاهرة، وفي معظم شوارعنا، أما أنا فحاولت أن أخفف من دهشتها بأن القاهرة بها سكان أكثر من طاقتها، وبأنه يفد إليها من الأرياف الكثيرون مما جعلها مكتظة بالسكان من كل الأطياف والفئات.
أما أنا فإنني الآن ومع اشتداد الزحام إلى حد خانق وتلوث الهواء إلى حد خطير أخشى أن تسوء الأمور فتعتاد عيون المصريين على القبح والفوضي والتلوث فيصبح الخطأ أمرًا عاديًا وعادة مستمرة لا إصلاح لها، لأنه سوف تعتاد عيون المصريين على هذا، أننا في مصر لا نحافظ على مدننا كما هي، بل دائما نري تغيرا إلى الأسوأ، ورغم أن لدينا جهازا للتنسيق الحضاري، إلا أن آثاره لا تظهر واضحة وتوصياته تذهب في معظم الأحوال أدراج الرياح.
في بعض الدول يتم فرض غرامة على إلقاء أي بقايا في الشارع، ولا يقتصر الأمر علي الاعتماد على حسن النوايا، بل إن فرض غرامة وجوبي ومعلوم ومتبع وأصبح المواطن في تلك الدول يلتزم بعدم إلقاء أي بقايا في الشارع؛ لأنه يعرف أن كاميرات الشوارع تصوره وأنه سيضطر لدفع الغرامة.
وهكذا يتم فرض النظام حتي يعتاد عليه المواطن، أخشي ما أخشاه أننا في بلدنا نتهاون مع القبح حتي أصبح واقعًا مريرًا مفروضًا علينا في حياتنا اليومية، ولابد أن أضيف أيضا أن ثمة تجاوزات تحدث من قبل أجهزة المحليات ويتم التغاضي عن مخالفات كثيرة بالجملة، فهناك شوارع تطل على النيل يتم فيها فتح عدة مقاه تحت العمارات، وليس مقهي واحدًا والحقيقة أنه يتم في بعض الأحيان تنفيذ القانون، ولكن ليس في جميع الحالات ونظرة على شارع كورنيش  النيل بحي المنيل سنجد أن مقاهي عديدة وكثيرة قد تم فتحها تحت العمارات وافترشت الشوارع.
هذا رأيته بنفسي بناءً على شكاوي من المواطنين، وإذا ما انتقلنا إلى حي الجيزة، حيث مقر سكني فإن المقاهي أيضا قد افترشت عدة شوارع، ونظرة على الرصيف فإنه لا يتوافر للمارة الآن في أحياء كثيرة نظرًا لتغاضي المحليات، وفي حي المهندسين يتحدث أهل الحي الذي اكتظ بالمحلات والمقاهي والسيارات وامتلأ بالخروقات وأنه توجد شوارع غير نظيفة ولا يتم تنظيفها إلا نادرًا، مما يهدد بخطورة على الصحة العامة ولا توجد تقريبا جراجات لوضع السيارات، فتجد السيارات تزحم الحي في كل الشوارع الرئيسية، وهناك حفر في الشوارع بسبب حفر أنفاق للمترو تحت الأرض.
ولديَّ مثال قفز إلى ذهني، حيث تذكرت مدينة فرانكفورت الألمانية، وهي مدينة الأعمال  والتجارة الأهم في ألمانيا، وهي مدينة لم تتغير لعدة عقود؛ لأنه يتم الاهتمام بها من الدولة ولم يتم إهمالها قط؛ لأنها مدينة يفد إليها الزوار من كل أنحاء العالم وتظل طوال العام نظيفة ومنسقة ومنظمة وتسر العين، وبها لمسات جمالية في كل الشوارع، وفي وسط المدينة شارع كبير مغلق؛ ليتاح للمارة والزائرين قضاء أوقات سعيدة فيه وتنتشر المطاعم بكل الأسعار والأنواع بوسط المدينة، كما تنتشر المحلات التجارية الأنيقة لكل أنواع المشتروات. وبفرانكفورت واحد من أكبر المطارات في العالم، وذلك لاستيعاب حركتها الدولية الكبيرة، وتم تخصيص موقع على أرض شاسعة لإقامة المعارض بكل أنواعها، وكنت أزور هذه المدينة المتحضرة على مدى ما يقرب من ١٥ عامًا لحضور معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي يعد أكبر حدث ثقافي دولي يشارك فيه ما يقرب من ٩٠ دولة بأهم ناشرين بها.
ويحضر كبار الكتاب لتوقيع كتبهم الجديدة، وكانت لي فيها أحداث هامة وذكري توقيع كتابي بها في سنة ١٩٩٠ وذلك بعدما تمت ترجمته إلى اللغة الألمانية ونشرته دار نشر"ديبا" الألمانية، وفي معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الذي يستمر سته أيام سيجد الكاتب والمثقف أحلى متعة ثقافية هنا؛ لأن الكتب الجديدة يتم عرضها لكبري دور النشر من كل أنحاء العالم.
إن زيارة المعرض والأجنحة تعتبر متعة ما بعدها متعة لي ولكل كاتب أو مثقف، أو محب للقراءة، وكانت مصر تشارك بعدة أجنحة جميلة التنسيق، ويتم وضع العلم المصري في كل الأجنحة المصرية، وكانت الأجنحة تعرض كل أنواع الكتب المصرية باللغة العربية، كما تعرض الأجنحة كل أنواع الكتب، خاصة الإصدارات الجديدة لكبار الكتاب وخصص المعرض على مدى سنوات لكل سنة دولة تكون ضيفة بثقافتها وبكتبها ومثقفيها وأدبائها، وفي بداية القرن الواحد والعشرين خصص المعرض سنة للعالم العربي.. وحضر بعض كتاب العالم العربي وأقيمت ندوات  ثقافية وكانت مناسبة لعرض الجانب الحضاري والمتحضر لمصر.
والمعني هنا هو أن مدينة فرانكفورت هي مدينة متحضرة ومنظمة وذات شوارع نظيفة ومواصلات متاحة وبها كل أنواع الفسحة والأحياء القديمة لا تزال بنفس ملامحها الشهيرة ومبانيها العريقة التي لم تتدمر أثناء الحرب العالمية الثانية، لأن الحفاظ على التراث يسير جنبًا إلى جنب مع الحديث والجديد، وتتم المحافظة على المساحات الخضراء؛ لأنها رئة للمدينة.
فإذا ما انتقلت إلى مدينة باريس أيضا، فإنها من أجمل العواصم، فهي تحتفظ بجمالها وبهائها  ونظامها ونظافتها، ومن يزورها فإنه بلا شك لابد أن يقع في حبها، وإذا ما أتيح له أن يزورها مرة أخرى بعدها بسنوات فإنه سيجدها بنفس جمالها وأضوائها وميادينها ونظامها وآثارها وأحدث الموضات فيها، وإذا ما انتقلت إلى روما فإنها أيضًا واحدة من أجمل العواصم العالمية، وتمت المحافظة على مبانيها القديمة وميادينها الأثرية ونوافيرها الأثرية الرائعة التي تزين الميادين الشهيرة بها وهي متعة تسر العين، إن روما مدينة مليئة بملايين السائحين كل عام  بنفس عدد سكانها، وهي ذات جمال خلاب ونظيفة وتختال بروعة ودقة تشكيل آثارها الرومانية القديمة التي قامت الدولة بالمحافظة عليها كما هي، إنني أقول هذا لأننا في القاهرة نجحنا في تنسيق ميدان التحرير بشكل جميل والشوارع من حوله، واستطعنا أن نرمم آثارًا مهمة، مثل قصر البارون مثلا، وإقامة متحف الحضارة، إلا أننا لابد إلى جانب هذا أن نبدأ في تنسيق وتجميل وتنظيف شوارعنا، إنه مشروع مهم أتمني تحقيقه، والبدء فيه، لكن يبقي السؤال المهم وهو: هل يمكن أن نعيد إلى مدننا الكبري جمالها؟ والسؤال الآخر هو: أما آن الأوان لوضع خطة لتجميل المدن المصرية الرئيسية والمحافظة على نظافتها  وتنسيقها؟؟  
إن لدينا آثارًا من كل العصور تشهد على عراقة تاريخنا أو بأننا مهد الحضارة الإنسانية، ولابد هنا أن أستعيد تاريخًا نزهو به حتي يومنا هذا، وذلك حينما حصلت القاهرة على جائزة أجمل عاصمة في العالم في الثلاثينيات من القرن الماضي، لهذا فإنني أدعو إلى ضرورة وضع خطة اتساقًا مع المشروعات القومية الكبري والإنجازات والإنشاءات التي ينجزها الرئيس عبد الفتاح السيسي بسرعة فائقة؛ حتي لا يصبح لدينا تناقض مع  حركة البناء الحالية، وحركة القضاء على العشوائيات، ونقل سكان هذه المناطق الخطيرة وغير الأمنة إلى مواقع  أخرى بها متطلبات المعيشة الحديثة الصحية والآمنة.
من الضروري أن تعمل الدولة بأجهزتها المعنية على الاهتمام بحال ونظافة وبهاء وجمال مدننا الكبري وأن نزرع فيها أشجارًا وأن نترك بها مساحات خضراء وحدائق شاسعة كرئة لكل مدينة، ومن الضروري أن نعالج  التلوث بأن نعمل على التصدي له بكل الطرق العلمية المتاحة، ولننظر إلى تجارب ناجحة لدول متقدمة استطاعت أن تحافظ على مدنها بنفس رونقها وجمالها ونظافتها، ومن المهم أن نعمل على تجميل وتنظيف مدننا الكبري والمهمة بالتوازي مع المشروعات القومية الكثيرة والسريعة التي تعد إنجازات نعتز بها في عهد الرئيس السيسي، وهذا ممكن ومتاح إذا ما تكاتفت الجهود لجهات عديدة من الدولة.
وإذا ما تكاتفت الأجهزة المعنية لتحقيقه، كما أن تنفيذ الجمال ممكن حتي تعتاد عليه العين من المواطنين ولدينا كل أنواع الخبراء والكفاءات القادرة على تنفيذ هذا، ولأن هذا سيستقطب ملايين السائحين والسائحين، فلا يصح أن يأتي السائح إلى بلدنا فيجد زحاما أو قبحا أو إهمالا في نظافة الشوارع المصرية، فلقد كان المصريون يغسلون الشوارع ليلا حتي وقت قريب، ونحن في حاجة إلى استعادة هذه الوسائل؛ لأنها متاحة وسهلة؛ ولأننا في مرحلة بناء جمهورية جديدة نتمنى أن تكون آمنة وحديثة ومتطورة ومستنيرة وعريقة أيضا.. وذات تاريخ نعتز به، وآثار نفخر بأنها في بلدنا، فنحن- المصريات والمصريين- أحفاد بناة الأهرامات.