رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلامة موسى

لسلامة موسى منزلة عظيمة فى تاريخ الفكر والثقافة فى مصر، عاش مدافعًا عن حرية التعبير والاعتقاد، ومبشرًا بعالم جديد خالٍ من العنصرية والطبقية، فى بدايات العمر كانت مؤلفاته بالنسبة لنا نوافذ نطل من خلالها على عوالم لا نعرف عنها إلا القليل، كنا نتبادلها ونتحاور حولها مثل كتاب الاشتراكية ومصر أصل الحضارة وحرية الفكر وأبطالها فى التاريخ وأحاديث الشباب وغيرها.

كنا نشعر بأنه أقرب إلى جيلنا رغم رحيله سنة ١٩٥٨، ربما بسبب انفتاحه على الأفكار والنظريات الجديدة التى يخشى المحافظون من الاقتراب منها، وربما بسبب لغته الرشيقة النافذة الخالية من الشحوم البلاغية، وأنا أرتب مكتبتى فى الأيام الفائتة ظهر لى كتاب «هؤلاء علمونى» صادر عن سلسلة «اقرأ» العريقة، كتاب يبدو خفيفًا فى أول الأمر، ولكن بعد أن فرغت من قراءته وجدتنى أستعيد مشاعرى القديمة وأنا أتعرف على سلامة موسى، واللهاث خلف الإيقاع الذى يفرضه على القارئ، الكتاب رحلة فى حدائق الفكر والعلم والأدب والفلسفة، أنت أمام جدارية تضم عظماء البشرية الذين غيّروا التاريخ، وأسهموا بمواهبهم ونضالهم فى تغيير شكل العالم، بينهم فولتير وجوته وداروين وأبسن ودستوفسكى وتولستوى وفرويد وغاندى وسارتر وغيرهم، سلامة موسى فى الكتاب صغير الحجم، كبير الأثر، لا يريد فقط التعريف بالشخصيات ولا بمنجزها، هو يمرر رسائل تخص المجتمع المصرى، ويشتبك مع أفكار، ويدافع عن المبادئ الإنسانية السامية التى انتهكها الاستبداد فى الداخل، إجلاله لفولتير لا مثيل له، لدرجة أنه يستعير مقولاته ليعبر عن نفسه، مثل هذا المقطع من كتاب فولتير المعجم الفلسفى: «إنى أجهل كيف تكونت وكيف ولدت، وقد قضيت ربع حياتى وأنا أجهل تمامًا الأسباب لكل ما رأيت وسمعت وأحييت، وكنت ببغاء تلقننى ببغاوات أخرى، ولما حاولت أن أتقدم فى الطريق الذى لا نهاية له، لم أستطع أن أجد طريقًا معبدًا ولا هدفًا معينًا، فوثبت وثبة أتأمل الأبدية ولكننى سقطت فى هوة الجهل»، فولتير «١٦٩٤- ١٧٧٨» أطلق عليه موسى لقب «محطم الخرافات»، بسبب دعوته إلى الحرية، خاصة حرية العقيدة، واحتال كى يعيش وكى يرصد حياته للكفاح فى سبيل هذه الحرية، وكان من احتياله أن اشترى أرضًا فى سويسرا وأرضًا أخرى فى فرنسا، وكانتا تتجاوران، ترقبان للاضطهاد من إحدى الحكومتين السويسرية أو الفرنسية، وعاش على هذه الحال سنينًا طويلة لكى يؤدى رسالته، وهى صيانة الحرية من الوحوش الآدميين الذين كانوا يكرهون من لا يؤمن بإيمانهم، قبل أن يكتب عن فيلسوف الصحافة «ه. ج ويلز» (١٨٩٥-١٩٤٥)، قال إن الصحافة أدب جديد لم يكن يعرفه أسلافنا، غايته أن يرتبط الكاتب بمجتمعه ويكتب عن عصره ويدرس مشكلاته، ولهذا الأدب قواعده بل سننه التى يجب أن يلتزمها الصحفى، وإذا كانت البلاغة لم تدرس إلى الآن «هذا كلام كتب قبل سبعين عامًا تقريبًا» هذا النوع من الأدب، فذلك لأنها تبنى قواعدها على حال اجتماعية قد مضى عليها أكثر من ألف سنة، ومن هنا عقم هذه القواعد فى عصرنا وخيبة نتائجها، ويرى سلامة موسى أن أول شرط لبلاغة الأدب الصحفى أن يكون من يمارسه أمينًا لقرائه مخلصًا لمثلياته ومبادئه، لا يخون ولا ينحرف، لأن فى خيانته أو انحرافه إفسادًا للقراء وبعثًا للشر، ثم يجب أن يكون على دراسة مثابرة للمشكلات العامة، إذ هى موضوعه الذى يتجدد كل يوم، ومهمته هنا أن ينير ويرفع مستوى البحث من ظلام الجهل والعامية إلى نور المعرفة والثقافة، وأيضًا من العاطفة إلى التعقل، ويجب أن تكون له أهداف فلسفية يتجه بها ويوجه قراءه إليها، ويرى أيضًا أن الفلسفة ألزم للصحفى مما هى لأى أديب آخر لقوة التوجيه التى يملكها أكثر مما يملكها أى أديب آخر.. رحمة الله على سلامة موسى وعلى كل أحلامه العظيمة.