رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا قلبى دليلى قاللى ده أنور وجدى

أجلس مستغرقة فى أدائه السلس الممتع المدهش، شاهدته مرات كثيرة لا أستطيع حسابها، وفى كل مرة له بريق متجدد، وُلد ليكون متفردًا، لن نجد مثله، هو مثل بصمة الأصبع لا شبيه لها إلا نفسها، بصمة أصبع وبصمة دأب وإرادة وبصمة كاريزما، ماركة مسجلة باسمه، بصمات عالية الجودة، قصيرة العمر، ترث الوسامة والموهبة ومرض قاتل لعين.

أنسحب من زمن الكورونا المتيبس الجاف، وألتف حول عوالمه، لها رشاقة الماء وتمايلات قلب فى بدايات العشق، أمد يدى إليه لأغريه بأن يرقص معى بدلًا من "ليلى" على أنغام فالس القصبجي "قلبى دليلى"، ولأنه "جنتلمان" بجد وليس ادعاء فإنه لا يكسر قلبى ويعدنى وعد الحُر برقصة أخرى فى فيلم جديد.

ولا ألومه فلم يُخلق بعد الذى يستطيع أن يترك "ليلى" من أجل أى حواء أخرى، خاصة إذا كان "القصبجى" الجامح الفريد حاضرًا فى المشهد، ولا أعاتبه فالرجل العاقل لا يترك "ليلى بنت الأكابر" و"ليلى بنت الأغنياء" من أجل امرأة لا ترتاح لسيرة الأكابر ولا تنتمى إلى سلالة الأغنياء.

لكننى على يقين أنه مثلى يشعر بأقصى قدر من الألفة والراحة والمتعة مع غير الأكابر وغير الأغنياء، ألم يتزوج فى النهاية "ليلى بنت الفقراء"، وكانت رقصة الختام هى رقصة الزفاف لزواج حقيقى وليس مجرد المشهد الأخير؟ أتكلم عن فنان جعلنى أحب السينما وأحب الرقص الفالس وأحب الرجل الذى يرتدى بدلة ضابط البوليس.

كم من الأدوار التى ظهر بدرًا منورًا وهو يرتدى تلك البدلة المشرفة له وللوطن، يضنيه البحث عن عصابات الإجرام، يحاول الوفاء لواجب الوطن الذى أقسم عليه دون الإخلال بالوفاء لواجب القلب المحب، وينجح فى المهمتين بامتياز وجدارة فيحصل على وسام الوطن وتكريم المرأة.. إنه "أنور وجدى" الذى تمر ذكرى ميلاده الـ117 بعد أيام قليلة بالتحديد، يوم 11 أكتوبر.

كان يسكن فى غرفة فوق السطوح لقلة الفلوس ولزيادة الموهبة النارية الباحثة عمنْ يفهم ويقدر، ويعطى الفرصة للشرارة الأولى، للطلقة الأولى، أو ربما أراد السكن فوق السطوح لأنه أراد مكانًا قريبًا من السماء لتأكده أنه سيصبح نجمًا من نجومها، أكتب عن "أنور وجدى" النجم الاستثنائى متعدد المواهب، متعدد القدرات، متعدد الإبداعات.

وليس لنا أن نندهش من هذا التعدد الذى كان مقدرًا عليه حتى فى المرض، قتله الداء الموروث فى العائلة، "الكِلية متعددة الأكياس"، كان بالضبط فنجان القهوة "المضبوط" الذى تحتاجه السينما المصرية فى أربعينيات القرن الماضى لكى تعدل مزاجها المتعكر، ونقصد الموهبة الجسارة، خفة الدم، الابتكار، التجديد، الوسامة، المغامرة، المعافرة، فورة الشباب، الدأب، الذكاء، الثقافة، الطموح غير المحدود، الكاريزما الطاغية، الشغف بالغناء والموسيقى والاستعراض والرقص.

من كومبارس صامت على خشبة المسرح وأدوار صغيرة قانعة بالقسمة على شاشة السينما إلى البطولة المطلقة والنجومية التى لا ينافسه فيها أحد، والتى تدهش زملاءه وجمهوره الذى تقبله وصفق له وتوجه بألقاب مثل: "الفتى الأول" و"معشوق النساء" و"الشرير خفيف الظل" و"عاشق المطربات" و"المستهتر الطيب" و"شارلى شابلن المصرى"، بعد أفلامه مع الطفلة فيروز، وطبعا لا ننسى "شاربه" المميز الذى أصبح موضة للشباب.

مع "ليلى مراد" صنع الثنائى الجميل الذى أنتج لنا مجموعة من الأفلام الغنائية الاستعراضية الفاخرة وسلسلة الأفلام الممتعة حملت اسم "ليلى".

والموهبة الفذة للطفلة "فيروز" هل كان بالإمكان أن تجد فرصتها النادرة فى الإنتاج الثرى إلا مع فنان له شخصية "أنور وجدى" لها حِس فنى أصيل وحدس إبداعى يستشرف الوجوه الجديدة والمواهب التى لا يلتفت إليها أحد ليعطيها الدعم الأدبى والمادى؟.

وكان حريصًا على تخصيص مساحة من أفلامه لإسماعيل يس ومحمود شكوكو، بعد أن لمس موهبتهما الفريدة واستحسان الناس.. رغم عمره القصير إلا أن أنور وجدى ترك لنا كنوزًا إبداعية متفردة تقدر بسبعين فيلمًا ما بين التمثيل والتأليف والإخراج والإنتاج، وكلها تتناول مشكلات اجتماعية وقضايا ثقافية نشهدها حتى اليوم.

فيلم واحد منها بعشرات ومئات الأفلام التى مرت بعده وليست إلا خسارة فى الذوق وخسارة فى الفلوس وخسارة فى الوقت، يدهشنا التنوع فى أدواره وتلك الطاقة العجيبة المحيرة المتجددة، وهى من أسرار أنور وجدى، الذى تُتوجه أميرًا يجلس على عرش السينما المصرية بلا منافس أو شبيه محليًا أو عالميًا.

وصل إلى ذروة التألق فى فيلم "أمير الانتقام" عام 1950، إخراج هنرى بركات، عن قصة «الكونت دى مونت كريستو» للأديب الفرنسى ألكسندر دوماس، هو الأمير الثرى الكريم العاشق الرومانسى، وهو أيضًا المنتقم الجبار الذى يخطط لإبادة من أودعوه السجن ظلمًا لمدة عشرين عامًا، هذا الفيلم احتل المركز التاسع فى قائمة أفضل 100 فيلم مصرى من بداية السينما فى 1896 حتى 1996.

ولا ننسى أفلامه الأخرى التى دخلت هذه القائمة، مثل التحفة العبقرية «غزل البنات، ريا وسكينة، العزيمة، غرام وانتقام، الوَحش»، كان أنور وجدى هو الممثل الوحيد الذى عمل مع مطربات عصره الشهيرات "أسمهان، أم كلثوم، ليلى مراد".

عندما اشتد عليه المرض الذى قضى على أبيه وشقيقاته سافر إلى استوكهولم في السويد، عله يجد علاجًا، وكانت معه الفنانة ليلى فوزى زوجته التي عادت به إلى مصر فى صندوق مغلق بعد أن لفظ أنفاسه فى يوم 14 مايو 1955، بعيدًا عن وطنه وجمهوره ولم يكمل عامه الواحد والخمسين.

من شقة فوق السطوح إلى سماء عنفوان الطموح، إنه عنوان مسيرة كفاح وإصرار على التفوق، إنه أنور وجدى الذى لن يعوض ولا نريد له تعويضًا، هو واحد من عظماء الفن الذين لا تكررهم البشرية، تنجبهم مرة واحدة فقط لأنها تعلم علم اليقين أن مرة واحدة مع أنور وجدى تكفى الزمان كله.