رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوثائق التى رفعت الغطاء قليلًا عن ألغاز التمويل

يظل سؤال تمويل التنظيمات والكيانات المسلحة، ليس شائكًا بحد ذاته، إنما الطريق للوصول إلى إجابة مريحة وموثقة يبقى أكثر وعورة من أى نشاط آخر تقوم به الأجهزة الأمنية، وأجهزة التحقيق التى تسعى طوال الوقت من أجل تضييق مساحات الحركة أمام تلك الكيانات.

لذلك انتشرت طوال عقود إجابة جامعة غامضة تربط التنظيمات الإرهابية والكيانات المسلحة، بدولة أو بأخرى تقوم بتمويلها ورعايتها من أجل تحقيق أهداف عدة، وعادة ما يأتى هذا الربط عبر دوافع وتفاصيل تلك الأهداف، ومسارات العداء أو التنافس ما بين الدولة المتهمة بالتمويل، ومدى ارتباطها بالنشاط الذى تمارسه هذه الكيانات المسلحة على دائرة جغرافية بعينها، والتى عادة ما تسهم مع استنتاجات أخرى فى تشكيل صورة تقريبية، تفسر أو يؤول على أساسها حجم النشاط المادى الذى يتابعه الكثيرون خاصة الجانب غير الخافى منه.

الثابت أن هذا الارتباط المشار إليه موجود وواقعى فى أكثر من حالة، حتى وإن حمل فى بعض جوانبه أكثر من حقيقته أو قيمته، لكن حتى هذا مقبول طالما البحث يدور فى مناطق سرية الشبهة فيها تكتسب مصداقية الدليل فى كثير من الأحيان، أو على الأقل تصير أداءات مثل الإفساح والتمرير والترحيب والترويج الإعلامى تحمل فى طياتها إشارة دالة ومقبولة عن حجم الارتباط ومن ثم التمويل حتى وإن كان غير مباشر.

يبقى فى الأمر جانب آخر له علاقة بتطور آليات وتكتيكات وصول أو إنتاج الأموال لدى تلك الكيانات المشار إليها حتى يمكنها الإنفاق على تعزيز الوجود وحجم الانتشار الذى يمكنها من تحقيق أهدافها، وهنا ستكون فى مواجهة الإنفاق على التسليح والذخائر ومواد صناعة العبوات الناسفة، وقبلها نفقات الإعاشة والتنقل والرواتب وكل المعدات اللوجستية المطلوبة، والتى شهدت هى الأخرى تطورًا كبيرًا ومذهلًا فى توافرها بأيدى تلك الكيانات مما نقل إمكانياتها ومدى تأثيرها، إلى مساحات أبعد من القدرة ومهارة التأثير فى صناعة المهددات ذات الطبيعة المتغيرة.

النموذج الأحدث الذى كشفت عن جانب منه ما يعرف بـ«وثائق باندورا»، وهى الحملة الصحفية الاستقصائية التى نشرت مؤخرًا وهى ليست الأولى، التى تتناول قضايا الملاذات الضريبية الآمنة وشركات الـ«أوف شور» وشبهات غسل الأموال المعقدة. 

هذه المرة طالت الوثائق جانبًا من نشاط «حزب الله» اللبنانى الذى يُعد من أشهر وأكبر الكيانات والفاعلين من غير الدول، وأتت الوثائق التى طالت سياسيين ونجوم رياضة وفن وإعلان، وغيرها من المهن التى يتمتع منتسبوها بدخول مرتفعة لا تقل عن عشرات ومئات الملايين من الدولارات، كى تضم هذه المرة مجموعة مهمة من رجال الأعمال الذين ثبت ارتباطهم بـ«حزب الله» من قبل، خاصة ممن هم مدرجون دوليًا على قوائم العقوبات والحظر المصرفى الدولى. وهنا تكتسب الوثائق الجديدة قدرًا من الإثارة وحداثة الكشف عن طبيعة النشاطات والالتفاتات التى يقومون بها، وغيرهم من رجال أعمال آخرين إفلاتًا من النظام البنكى العالمى الذى صُمم، كى يمكن من خلاله تتبع النشاطات غير الشرعية الضريبية والجنائية وصولًا للإرهابية وما يستتبعها.

الإشكالية الكبيرة التى تتعلق بـ«حزب الله» اللبنانى، أنه الكيان المرتبط بالسلاح والنفوذ السياسى والنشاط الإعلامى، فضلًا عن ارتباطاته الإقليمية مع نظراء وفروع مماثلة. ولهذا تظل قضية «تمويل» الحزب فى كل تلك الدوائر، محل تساؤل وبحث يتجاوز منذ سنوات علاقته المعلنة بالدولة الإيرانية، مما دفع نشاط التقصى الرسمى الأمريكى ممثلًا فى وزارة الخزانة أن تصدر حزمة عقوبات عام ٢٠١٩، بحق رجال أعمال لبنانيين بتهم تهريب وغسل أموال بمبالغ ضخمة لصالح «حزب الله»، الذى تصنفه الولايات المتحدة تنظيمًا إرهابيًا متجاوزة مسألة تمثيله السياسى فى لبنان.

«وثائق باندورا» هى الأخرى دخلت على ذات المدار ببعض ما تكشف لدى مجموعة الصحفيين الاستقصائيين، والمحققين غير الرسميين الذين تمكنوا من الوصول لبعض هؤلاء وتحديد طرق الاحتيال غير الشرعى على النظام اللبنانى الوطنى على الأقل. منهم رجل الأعمال «صالح عاصى» رجل الأعمال اللبنانى، الذى له امتدادات مالية وسياسية مشبوهة بين لبنان والكونغو وفرنسا ودول أخرى، والذى خرج يعلق على ما جاء بالوثائق، معتبرًا المتداول عنه وعن تبييضه أموالًا طائلة لصالح «حزب الله» لا يعدو كونه استهدافًا سياسيًا محضًا.

اسم «صالح عاصى» كنموذج داخل اللائحة الأمريكية التى تضم «٩٠ اسمًا» لشخصيات وكيانات ومؤسسات عمل خاصة، ويقيم عاصى فى مبنى «البلاتينيوم» الأغلى فى لبنان ومنه أيضًا يمارس أعماله العابرة للحدود.

عاصى نفى تمامًا أن تكون الشركة التى ورد ذكرها بـ«وثائق باندورا» مملوكة له، وينكر صلته بالوثائق التى وردت فى التسريبات الأخيرة لكنه لم ينف إنشاءه العديد من شركات الـ«أوف شور»، بل يجيب عن ذلك بوضوح أنه يفعل ذلك من أجل التهرب من الضرائب.

والاسم الآخر الذى ظهر فى الوثائق رجل الأعمال اللبنانى الثرى «قاسم حجيج»، الموضوع أيضًا على لائحة العقوبات الأمريكية منذ ٢٠١٥، بتهمة دعم أنشطة «حزب الله» المالية فى كل من لبنان والعراق. وهو من النماذج العابرة للحدود حيث يحتل منصب رئيس الجالية اللبنانية فى الجابون وفى ذات الوقت قنصل الجابون فى لبنان، وتملك وتدير عائلته الكبيرة «آل جيج» التى تنتشر فى «بنت جبيل» جنوب لبنان، حجم استثمارات ضخم أشهرها بنك الشرق الأوسط وإفريقيا وفندق «كورال بيتش» ببيروت العاصمة.

هذا المعلن، لكن «وثائق باندورا» جاءت لتكشف عن نشاط غير معلن آخر له علاقة بشركات طيران خاصة، أسست بموجب قوانين الجزر البريطانية «فيرجن» لكن إثبات الارتباط مع حجيج جاء من اصطياد مراسلات كشوف حساب مع مصرف حجيج فى لبنان «MEAB». هذه الشبكة التى جرى الكشف عنها تكتسب أهمية بالغة فى الوقت الراهن، خاصة مع الانهيار الاقتصادى الذى يشهده لبنان، فى ظل اتهامات للسلطة الحاكمة بأنها تتلقى رعاية بشكل شبه كامل من «حزب الله»، الذى وقف سدًا منيعًا لحماية عهد الرئيس ميشال عون ورموزه فى وجه التظاهرات الاحتجاجية عام ٢٠١٩، وعرقل ومنع محاسبة الكثير من الطبقة السياسية بتهم الفساد المالى والسياسى، خصوصًا فى الوقائع التى تابعها اللبنانيون والعالم فيما يخص جريمة «تفجير مرفأ بيروت».

بالطبع ستكون لروايات عشرات الآلاف من الوثائق فى كشف «باندورا»، تكملة للمشاهد والحقائق من داخل الحياة السياسية اللبنانية الغامضة، جرت وقائعها التى ظلت ناقصة طوال سنوات ليأتى الكشف الجديد حاملًا معه سدًا للفجوات والثغرات، وسيمكن اللبنانيين وغيرهم ممن يراقبون «حزب الله» من رواية القصة كاملة، بمشاهدها التى جرت فى أروقة السياسة بالداخل، ومن ثم بقية أبطالها ونشاطاتهم بالخارج على ضفاف الجزر البريطانية والملاذات الآمنة، التى مكنت الحزب اللبنانى من صناعة تلك الأسطورة ليس فى لبنان وحدها، بل امتدت لتشمل العراق وسوريا واليمن وغيرها من الساحات التى تشهد مكونات لنظام «تمويلى» ضخم ومنضبط، وما ظهر منه قبلًا كان مجرد قمة صغيرة لجبل كبير غاطس وممتد، وتمكن من الاستفادة من الخروقات المحاسبية والضريبية التى صار هناك من يجيدون تأسيسها، وإدارتها وجلب عوائدها الضخمة قبل أن يسارعوا بتصفيتها بدعوى الخسارة أو استبدال النشاط، أو بغيرها من الذرائع التى كشفت «وثائق باندورا» عن الكثير منها.