رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حديث المنتصرين

الفريق محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى: ملحمة الدفاع الجوى من ١٩٦٩ إلى ١٩٧٣

الفريق محمد على فهمى
الفريق محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى

يتشعب الفكر بالإنسان وهو يحاول أن يكتب فى كلمة قصيرة تجسيمًا لأعمال الدفاع الجوى خلال حرب رمضان المجيدة.. وقد مضى العام الأول عليها، وقوتنا العسكرية الآن، كما يقول القائد الأعلى للقوات المسلحة، أقوى منها عما كانت عليه فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣.

إن الدفاع الجوى يستحق بجدارة أن يوصف فعلًا، كما وصفته بعض الأقلام الشريفة، «بالملحمة»، وقد بلغت ذروتها فى معركة العبور إلى الضفة الشرقية ثم التقدم عمقًا إلى سيناء.

سأترك بداية مهام الدفاع الجوى خلال الحرب العالمية الثانية، نقطة انطلاق كفاءة مقاتل المدفع المضاد للطائرات متطورًا بالصاروخ، ثم مهامه فى حروب ٤٨ و٥٦ و٦٧، وقد أعطى مؤشرات الكفاية والاقتدار والثبات رغم النتائج السيئة التى انتهت إليها هذه المعارك، لأبدأ من سنوات قليلة مضت.. عام ١٩٦٩، حيث كان الميلاد الخطر للمفاجأة الكبرى التى حققتها قواتنا المسلحة، أمام العالم أجمع فى حرب ١٩٧٣ وهى مفاجأة «الجندى المصرى المترجل»، وقد أسقط أسطورة طيران إسرائيل الذى لا يقهر كما أسقطها فى المدرعات عبر معارك الدبابات، فازدحمت صحراء سيناء بالدبابات الإسرائيلية المحترقة، والطائرات الأمريكية والفرنسية المدمرة.

منذ عام ١٩٦٩، والقائد الأعلى للقوات المسلحة - وكان أيامها نائبًا لرئيس الجمهورية- وبين مهامه الإشراف على السلاح الجديد الذى نشأ باستقلالية تامة بعد حرب ١٩٦٧، منذ ذلك العام والرئيس أنور السادات يعطى أقصى اهتمامه إلى تدعيم الدفاع الجوى، وفى خطته الكثير بعد ذلك، مما تحقق قبل حرب رمضان، وتأكد خلال الهجوم والتقدم إلى تحرير سيناء.

لقد قاد الرئيس السادات معركة الدفاع الجوى الكبيرة يوم ٢٥ ديسمبر عام ١٩٦٩ حين جاء العدو بـ٢٦٤ طائرة ليحطم بها قواعد الصواريخ المصرية- التى أعطاها القائد الأعلى وشعبنا كل طاقاته- فى ذلك اليوم أمر الرئيس السادات بنقل بطاريات الصواريخ وتغيير أماكنها قبل صباح اليوم التالى، وكان عملا جريئًا مقتدرًا بالاستطاعة، وحين جاءت الطائرات المعادية لم تجد البطاريات فاستدارت لتعود، وإذا بها تفاجأ بالصواريخ المصرية تحاصرها وتسقطها.. وقال الرئيس السادات يومها كلمته الشهيرة متحدثًا عن مقاتلى الدفاع الجوى.

«ولم يحدث أن انكسر أولادنا أبدًا».

إن الحرب تعلم الحرب، ومن تجارب ١٩٦٧، ومن معارك مواجهة الطائرات الإسرائيلية يوميًا خلال ٦٩- ١٩٧٠ استطعنا أن نبنى وندعم سلاحنا، وأمام عيوننا كل الأخطاء والثغرات ونقاط الضعف نتدارسها لنتجاوزها فى حرب ١٩٧٣ المجيدة.

لقد ظل العدو يفخر بقوته الجوية الكبرى، وأخذ يعربد بها فى المنطقة العربية، وكان علينا فى فترة اللا سلم واللا حرب أو سنوات الصبر والصمت، كما أحب أن أسميها، أن نكون على مستوى معين من الكفاءة والاستعداد والقدرة، ولم يكن من السهل تحقيق ذلك المستوى إلا بخلفية السلاح وتطوره وقاعدته العريضة المدعمة بالخبرة الطويلة، فكان لنا أقوى سلاح صواريخ ودفاع جوى قضى على أسطورة إسرائيل التى لا تقهر فى حرب رمضان الخالدة.

لم يكن النصر الذى حققناه فى ٧٣ وليد شهر أو عام، بل وليد كفاح متصل مضن، وأرواح رجال عمالقة ضحوا بها من أجل كرامة شعبنا، حتى تتحدد ساعة الصفر من الخطة ٢٠٠٠، وكانت ٢ ظهرًا يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وقد عبر مقاتل الدفاع الجوى إلى سيناء جنبًا إلى جنب مع قوات المشاة.. الموجات الأولى من العابرين.

قبل أن نعطى «تمام» لتنفيذ المهمة التاريخية عشنا المعركة تخطيطًا وتجهيزًا وتدريبًا.. اكتسبت قيادات الدفاع الجوى أنضج الخبرات فى الابتكار، ووضع الخطط، والخطط المعدلة والبديلة، وإدارة أعمال القتال بسرعة وجيزة، والتصرف بحكمة وعقل خلال المواقف الطارئة المفاجأة، وتطوير أساليب التدريب بعيدًا عن الأساليب النمطية، تطويرها إلى حد فعال، مؤثر، هو المفاجأة بعينها التى تحققت فى سيناء ١٩٧٣ وأثارت العالم كله بالإعجاب.

ورغم الوقت الذى استغرقه هذا الإعداد قياديًا وميدانيًا بين الوحدات المقاتلة إلا أنه يعتبر فى التقدير العسكرى عملًا معجزًا رائعًا، بل قفزة ناجحة محكمة، فقد أنشأنا قوات صاروخية، وفهم كل مقاتل أسرار معداته الإلكترونية وأجاد استخدامها بدقة، واستطاع صيانتها وإصلاحها فى قواعد الصيانة والإصلاح المتحركة والثابتة لكى نصل إلى ملحمة أكتوبر.

وبدأت عمليات العبور، وكانت المفاجأة شديدة فى جسد العدو.

كان أول رد فعل إسرائيلى بالنسبة لنا كسلاح مضاد للطائرات هو هجوم جوى علينا بعد أربعين دقيقة من بدء هجومنا، ويدل ذلك على درجة استعداد طيران إسرائيل العالية رغم مفاجأة قواتنا المسلحة الكاملة لها، ومن هنا نستطيع تصور ضراوة وحجم النيران التى دارت فوق القناة وسيناء، وانتهت بإحراز التفوق أمام جميع استعداداته وإمكانياته الإلكترونية المتطورة.

ظل هجوم طيران إسرائيل بدون خطة مسبقة، فساد الاضطراب طائراته وقاتل رجال الدفاع الجوى أولى معاركهم فى ١٩٧٣، وتساقطت طائرات إسرائيل كالذباب، وبلغت معنويات أبنائنا السماء، وارتفع إيقاع المعارك.

فوق أرضنا التى تسيطر عليها قواتنا، وقبل مرور ثلاث ساعات من يوم ٦ أكتوبر، سقطت ١٥ طائرة إسرائيلية بخلاف الطائرات المصابة والتى سقطت بعيدًا عنا.

وهنا أحب أن أذكر أننى قرأت مقالًا فى مجلة «أفيش ويك العالمية». بتاريخ ١٦ نوفمبر عام ١٩٧٠، جاء فيه «إن إسرائيل خسرت ما بين يناير ومايو ١٩٧٠ بواسطة الصواريخ المصرية ٦٦ طائرة فانتوم وسكاى هوك».

ونحن فى انتظار معلوماتهم عن حرب أكتوبر ١٩٧٣.

لقد كان من عوامل النصر فى حرب رمضان نشاطنا فى اكتشاف ودراسة أساليب وسلوك العدو جوًا، فبذلنا الجهد لاستنباط الوسائل المضادة، سواء بتطوير السلاح تطويرًا مصريًا أو بتطوير استخدامه، وللحقيقة تعتبر مرحلة حرب الاستنزاف فترة تدريب عملية واقعية فى ظروف حرب حقيقية بمعارك يومية، فتعلمنا للمعركة الكبرى، وامتلكنا خبرة التخطيط والتنسيق وإدارة المعارك الميدانية، وأثبت التخطيط المصرى كفاءته فى عمليات مستقلة برز فيها عنصر الذكاء والتفوق لدى قياداتنا الصغرى، ومن هذه العمليات عملية إسقاط المعمل الطائر «الطائرة استراكوزا» عام ١٩٧٢، وهى طائرة أمريكية من أحدث طائرات الاستطلاع، ومن الصعب إصابتها لما تقوم به من أعمال تداخل إلكترونية، وسقطت الطائرة نتيجة كمين أعده الدفاع الجوى، وأطلقنا على العملية «٢٧ رجب»، ومنحنى القائد الأعلى للقوات المسلحة فى سبتمبر من نفس العام وسام النجمة العسكرية تقديرًا منه لهذا التخطيط.

إن معركة رمضان المجيدة ونجاحها الأسطورى ليست إلا نتاجًا عمليًا للتخطيط العلمى، وللتدريب الجيد، والتنسيق المحكم بين القيادات العسكرية لتطبيق الخطة العامة فى أحسن أشكالها.

لقد كان لدينا تقديرًا مسبقًا لحجم الخسائر قبل أن ندخل الحرب ونوعيتها وكيفية استعادة الموقف والحفاظ على السيطرة طوال المعارك، حتى قطع الغيار الصغيرة كانت ضمن حسابات الخطة لتوفيرها أثناء القتال، بل توفير كل النشاط التكنولوجى خلال إصابة المعدات لإعادتها إلى كفاءتها الأولى فى سرعة وجيزة، وكذلك فشل العدو فى استخدام أحدث أسلحة التشويش والتحذير الموجودة فى طائراته الأمريكية، ويسمى ذلك عسكريًا «نجاح تكتيكى» فى استخدام مقاتل الدفاع الجوى المصرى للصواريخ المضادة للطائرات المختلفة، بما يقضى على هذه الطائرات قبل أن تحقق أهدافها فوق قواتنا أو حائط صواريخنا.

وكل طائرة لها صاروخ معين يجب أن نتعامل به معها.

لقد اشتركت عناصر الدفاع الجوى بأكملها فى حرب رمضان المجيدة، واستخدمنا جميع أنواع الصواريخ الخفيفة والثقيلة والمتحركة وبعيدة المدى، وظل السلاح يعطى جميع الارتفاعات بكفاءة عالية لم نحققها خلال برامج التدريب.

وفى مرحلة اقتحام القناة، واحتلال رءوس الكبارى لسيناء، أمكن لوحدات الدفاع الجوى تحديد الطيران الإسرائيلى تحديدًا تامًا، ثم تقدمت وحدات السلاح عبر المراحل المتقدمة لرءوس الكبارى إلى عمق سيناء.

وسواء كان الصاروخ فرديًا أم تقوم جماعة من الأفراد بتشغيله، فإنه لم يكن يحقق هذه النتائج بدون المقاتل المصرى، «سيد الصاروخ»، بثبات أعصابه، بإرداته، بتدريبه، بإيمانه، وفوق هذا كله رعاية الله الذى زودنا بالنصر، لأننا دخلنا الحرب مؤمنين بشرعية مطالبنا، فكانت حرب رمضان التحريرية الخالدة على مدى التاريخ، وكل مهامها قام بها المقاتلون المصريون فى دقة مثالية، وكأنهم يعزفون سيمفونية لا نشاز فيها على الإطلاق.

إن رجال الدفاع الجوى فوق أى بقعة من أرضنا عادوا إلى مهام التدريب المدعمة باليقظة، بالاستعداد المتطور أبدًا، بخبرة المعارك السابقة بجلال الانتصارات المشرفة، فى انتظار كلمة القائد الأعلى للقوات المسلحة، الرئيس المؤمن، بطل أكتوبر العظيم، وبطل السلام، الرئيس أنور السادات.

إن ملحمة الدفاع الجوى لم تنته بعد.