رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«غاندى».. لا أجرؤ على مخاطبة الفقراء وأنا أعيش حياة الأثرياء


الهند ليست بلدًا مثل البلاد الأخرى، هى أرض الحضارة والفلسفة وعبق التاريخ، والهند حقًا أرض العجائب والتناقضات وتنوع الديانات والثقافات، لا تحتاج الهند إلا إلى زيارة واحدة حتى تسحرنا وتحيرنا، مرة واحدة إلى الهند كافية لأن تبقى إلى الأبد فى الذاكرة، كان يطلق على الهند "جوهرة التاج البريطانى" والهند فى حياتى "جوهرة من جواهر ذكرياتى" فقد كانت الهند هى أول سفرياتى صيف عام 1976، وكانت الخطوط الجوية الهندية أول خطوط تحملنى عبر الهواء.
فى أغسطس 1976، حضرت احتفالات الشعب الهندى بيوم الإستقلال، 15 أغسطس 1947 رأيت كيف يعبرالنساء والرجال فى الهند على اختلاف عقائدهم ولغاتهم ودياناتهم وطوائفهم عن فرحة شعبية غامرة ترسخ توحدهم وتعمق من انتمائهم الوطنى، رأيت كيف فى يوم الاستقلال يطل الزعيم "غاندى" "2 أكتوبر 1869 - 30 يناير 1948"، الذى تمر ذكرى ميلاده الـ"152" هذا العام
بالطبع أنا منحازة إلى غاندى انحيازًا مطلقًا رغم بعض التحفظات لأنه بحكمته العميقة وسمو روحه ورحابة إنسانيته حررنى أنا الأخرى من حماقات العالم واغراءات الحياة الفانية، وأنا منحازة أيضًا بشكل مطلق للهند بطعامها الحار الذى أعشقه وتاج محل الذى يخطف العقول والقلوب وموسيقاها الفريدة فى إيقاعاتها ومذاقها ورائحة جوز الهند ورائحة البخور ورائحة تاريخ المعاناة المرسومة على  الوجوه وشكل الزى التقليدى للمرأة "السارى".
فى ذكرى ميلاده، دعونا نطل على حياة هذا الزعيم الفريد المتفرد "المهاتما غاندى" الذى بهر العالم وأحبه الأعداء قبل الأصدقاء وأنجز المهمة المستحيلة "إخراج الانجليز من الهند".
العالم كله وأوله من هاجموه وحاربوه وسجنوه وعذبوه، يحتفل بميلاده المجيد، كان يوم ٢ أكتوبر ١٨٦٩ يوم ميلاده، نذير شؤم لكل آكلى لحوم البشر أحياء، ومغتصبى الأرض والكرامة وكان بشارة خير ونور للمقهورين الفقراء والمعدمين، حملت به أمه آلاف السنوات، وليس تسعة أشهر لكنه اختار اليوم الثانى من الشهر العاشر سنة ١٨٦٩، لينهى تأملاته وأحلامه وأمنياته فى الرحم، ويبدأ تحقيقها فى الهند «الرحم الأكبر»، وطنه ورسالة حياته ومسقط الرأس وحضن الرفات المحترق.
هل شعرت أم غاندى بأنها بهذا الحمل الفريد قد جعلت التاريخ البشرى مدينًا لها وممتنًا لعطائها النادر؟ هل كانت أم غاندى تحس بقلب الأم الذى لا يخطئ بأنها تسير وفى أحشائها نبوءة وثورة؟ ربما لهذا السبب جاءت ولادتها دون ألم، دون استشارة أطباء النساء والتوليد ودون قطع الحبل السُرى الذى يربطها إلى الأبد بالشعب الهندى وحضارته العريقة وإمكانياته اللانهائية.
أتأمل كيف نعيش ونموت بأوامر من ماكينات سفك الدماء، قلة همجية متنمرة متوحشة مختلة العقل تملك الفلوس والثروات والأسلحة والإعلام والثقافة والتعليم والأديان، تعيش على إثارة الفتن وسرقة الضعفاء وصناعة الأكاذيب واغتصاب حرية وكرامة وأمان الشعوب، فأدرك أننا نحتاج إلى مئات من غاندى، كان الأب الروحى والمعلم والملهم والمناضل، رسول اللاعنف، نبى الحرب دون قطرة دماء.
كم هى مفارقة مؤلمة لكنها متكررة عبر التاريخ، غاندى، الذى عاش يدعو إلى اللاعنف والتسامح الدينى قتلته رصاصة هندوسية متعصبة فى ٣٠ يناير ١٩٤٨.
مع غاندى تتجدد دائمًا دهشتى، هذا الرجل البسيط، بساطة البديهيات نحيل الجسم نصف العارى وتساعده عصاه فى المشى، لا يملك سلاحًا إلا إيمانه بالهند ونبذ العنف، هذا الرجل هادئ الحركات رقيق الصوت، فى قلبه التسامح والمحبة والسلام.
كان الخطر الأكبر على إمبراطورية تملك كل الأشياء، المال والنفوذ والأسلحة والجيوش وخبرات الاحتلال والحلفاء والقمع والتعذيب، من المعروف أن الديانة الهندوكية تقسم المجتمع الهندى إلى نظام صارم من الطوائف، على القمة طائفة "البراهما" والبراهما هو إله الخلق والكون لذلك فهى طبقة عليا يمثلها القائمون على الدين والفكر، ثم نجد فى القاع طائفة "التشودرا" حيث أصحاب المهن اليدوية المختلفة، وأصحاب الحرف العديدة، من هذه الطائفة فى القاع نشأت فئة "المنبوذين" التى تقوم بأحط الأعمال فى نظر المجتمع الهندى، مثل جمع القمامة ولم جلود الحيوانات الميتة وذبحها، وقد انعزلوا فى مكان مخصص لهم لا يشربون إلا من بئر خاص ولا يلمسون الآخرين ويتم استغلالهم فى جميع الانتهاكات المستباحة.
طبقًا لنظام الطوائف لا يتم التزاوج بين طائفتين مختلفتين ولا يحق لانسان تغيير طائفته إلى أن يموت، ثار غاندى على هذا الموروث الدينى الهندوكى، وقام بتزويج رجل وامرأة ينتمى كل منهما إلى طائفتين مختلفتين، بل من أكثر الطوائف بعدًا "البراهما" قمة المجتمع والمنبوذين قاع المجتمع، وكانت هذه حادثة لم تشهدها الديانة الهندوكية على طوال تاريخها.
قال غاندى: سوف نخرج الإنجليز من الهند بكامل اختيارهم واقتناعهم ولن يحدث ذلك إلا بالتمسك باللاعنف، الذى هو قمة الثورة وسوف يحب الإنجليز خروجهم من الهند ويعتبرونه قمة الحكمة".
وهناك مرة أخرى، كان إضرابه عن الطعام طويلاً لحدوث فتنة طائفية وكان هذا أصعب ما يخشاه ولم ينه إضرابه حتى تصالح المتعصبون دينيًا واستمعوا إلى حكمة غاندى: هذا ما يريده الإنجليز أن نقتل بعضنا البعض حسب دياناتنا".
أكثر ما يبهرنى فى سيرة غاندى، ما سُمى بمسيرة الملح فى 12 مارس 1930، فى ذلك اليوم خرج غاندى من مدينته أحمد أباد، فى ولاية غوجارت سائرًا على القدمين إلى قرية داندى فى مقاطعة سوارت وقد قطع عهدًا ألا يعود إلا بعد تحرير الهند، بدأ السير مع تسعة وسبعين من أتباعه وحين وصل إلى محيط العرب فى سوارت كان قد مشى يومًا كاملًا قاطعًا خمسمائة كيلو متر، وعلى طول الطريق تحول الجمع الصغير المؤمن باللاعنف أو العصيان المدنى إلى الآلاف من الهنود فى المدن وفى القرى احتجاجًا على احتلال بريطانيا.
عند الشاطىء توقف غاندى وتوقف معه الزحف الهندى الضخم، توجه إلى تلال الملح القريبة، رفع بعض الملح إلى أعلى ثم تركه يتساقط مصاحبًا بالهتافات الرعدية، فقد فهم آلاف الهنود رسالة غاندى من هذه الحركة البسيطة إنه احتجاج غاضب ضد احتكار الإدارة الإنجليزية للملح وفرضها ضرائب باهظة على تداوله.
لكن لماذا الملح؟
أدرك غاندى أنه أفضل توحيد للخمسمائة وخمسين مليونا من الهنود، فأفقر الفقراء الذى لا يتناول إلا  قطعة من الخبز يحتاج إلى بعض من الملح وليس هناك جسم يستطيع الاستغناء عن الملح.. ولهذا أُطلق هذا الزحف التاريخى: "نمك ساتياجراها"، نمك يعنى ملح، ساتياجراها تعنى الإصرار على الحقيقة دون عنف.

وكان «غاندى» محقاً.. فالملح تاريخياً كان سلعة ثمينة . وكان فى بعض البلاد، يُستبدل به الذهب . وفى الصين ، اعتادوا على استخدام عملات ، مصنوعة من الملح . وفى عدة دول كما حدث فى الهند  ، فُ ،رضت عليه ضرائب باهظة وتم احتكاره لصالح الملوك، والأمراء. ولم يتم إلغاء احتكار الملح ، الا ب ثورات الشعوب .أو ما أطٌلق عليها ، " ثورات الملح " .  
     
عرفت الكثير عن مسيرة الملح ، وتعمقت فى حياة " غاندى " ، وتاريخ الهند ، من كتاب " طريق الملح والحب " ، أحد الكتب المفضلة عندى ، ومن أجمل مؤلفات
د . شريف حتاتة ( 13 سبتمبر 1923 – 22 مايو 2017) أبى الحنون النبيل ، الذى لا يعوض ، الطبيب والمناضل والكاتب ، عشت العمر معه ، ولم أحمل اسمه . و نجح «غاندى» بسياسة اللاعنف ، إحياء الصناعات القديمة ،  والحرف التقليدية الهندية ، والعودة إلى النول اليدوى للغزل . فقد أدرك أن الاستقلال السياسى للهند ،لن يتحقق طالما أن الهند ،تصدر إنتاجها الزراعى كمادة خام، ثم تشترى المنتجات الإنجليزية الجاهزة .ولهذا دعا الهنود إلى الامتناع عن استخدام الأقمشة الإنجليزية.
        
وهكذا أصبح «النول» اليدوى رمزاً للتحرر ، وأداة ثورية ، لها مغزاها السياسى ،  والاقتصادى ، والثقافى .  يوم 30 يناير 1948 اُغتيل " غاندى " المناضل ، أو الفيلسوف ، الذى ضل طريقه إلى السياسة .  فى ذلك اليوم ، كان " غاندى " ، فى نيودلهى ، فى حديقة ، " بيت بيرلا " ، يصلى مع آلاف المصلين ، وبعد استقلال الهند ، بأقل من سنة على استقلال الهند ،  فى 15 أغسطس 1947 ،   أصابته رصاصة من أحد الهندوس المتعصبين دينيا . 

  دعونى أذكر ، بعضا من مقولات " غاندى " ، حتى نزداد ، حكمة ، وتواضعا ، وسموا : 
  -  لا تستطيع أن تساعد الناس حقاً إلا إذا عشت مثلهم.. ساعد الناس على أن يفعلوا الأشياء بأنفسهم وأن يكتشفوا إمكانياتهم.. لا تحل محلهم.
- السعادة هى أن يتناغم ما نقول مع ما نفعل مع ما نحلم به. 
 - لو لم أمتلك القدرة على المرح وعلى السخرية لهزمتنى أول معركة . 
- أيها الهنود.. أنا إنسان مثلكم.. لا تعاملونى كإله، أو إنسان لديه قدرات خارقة.. ولا تحولونى إلى تعويذة تجلب لكم الحظ السعيد.. حظكم هو فعلكم .
-  لا أومن بأى فكرة دينية تناقض عقلى وتفكيرى ،المنحاز للعدل والحكمة والحرية. 
- كم يسعدنى الاعتقال ،حتى يتأكد الهنود إننى إنسان عادى مثلهم.
- لست أطلق على بريطانيا، كلمة «العدو» لكننى أعتبرها صديقة ضلًت طريق الحكمة . 
- الجسد أداة ثورية.. ورمز للاحتجاج ووسيلة لإعلان الغضب.. لذلك فأنا بحياتى عشرات الإضرابات التى جعلت الموت صديقى . 
  - الذى يعفو أرقى من الذى ينتقم. السلام أرقى من الحرب.
- نحن موجودون على الأرض بسبب النساء.. فلا تسيئوا معاملتهن أيها الرجال. 
- الحقد يستنزف طاقتنا.. ويجعلنا عبيدًا لغريزة شريرة.. همجية.. لا حق لنا فى ممارستها. 
- اللاعنف سياستى.. والتواضع فلسفتى..والهند الحرة غايتى.. 
- لا تيأس من الحياة رغم مآسيها.. ففى النهاية لا يتسخ البحر لمجرد قطرات ملوثة من الماء . 
        عُرف عن " غاندى " ، الكثير من الدعابات الساخرة ، التى تفضح الكذب ، والظلم ، والقبح . دعابة شهيرة ،حين دعُى لحفل استقبال فى قصر الإمبراطورية البريطانية. وذهب كما هو، يرتدى ً الثوب الأبيض، الذى يكشف جسمه النحيل ،أكثر مما يستره .سأله أحد المدعوين الإنجليز باستنكار: أهذه ملابس تناسب لقاء الملك؟ . 
بابتسامة هادئة ودودة رد «غاندى»: اطمئن يا صديقى فالملك يرتدى من الملابس ما يكفينى ويكفيك ويكفى كل المدعوين.
        أعطى " غاندى " ، النموذج لصدق الزعامة. فكانت حياته أبسط من البساطة.. متقشفة أكثر من حياة ،أفقر الفقراء فى الهند . قال " غاندى " …  
" الفقر موجود لأننا نأخذ أكثر من حاجتنا .لا أستطيع أن أكافح الفقر فى وطن ،غالبيته لا يجد قوت يومه. ولا أجرؤ على إلقاء خطبة، عن القيم النبيلة وعن العدالة، وعدم التفرقة والمساواة، بينما أعيش حياة الأثرياء، فى بلد به ملايين من الفقراء " .
تم اختيار ٢ أكتوبر، مولد «غاندى»، ليكون اليوم العالمى لنبذ العنف تكريمًا له، وتدعيمًا لسياسة اللاعنف والعصيان المدنى والمقاومة السلبية. 
فى ١٤ مارس ٢٠١٥، فى لندن، فى ميدان البرلمان، أزيح الستار عن تمثال «غاندى»، وهذا التاريخ يوافق مائة عام، حينما عاد «غاندى» إلى الهند من جنوب إفريقيا، حيث كان يعمل بالمحاماة لكى يتفرغ للنضال لتحرير بلاده، وكان يبلغ من العمر ٤٦ عامًا.
يا للمفارقة، تمثال «غاندى» يرتفع شامخًا، وقورًا، منتصرًا، وفخورًا، فى قلب لندن، فى عقر دار الإمبراطورية العتيدة، المسماة الإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس، والتى طاردت «غاندى» واعتقلته سنوات أكثر من مرة. 
يا للسخرية، إن لندن تغيب عنها الشمس طوال الوقت. يا للمفارقة، ذهب الجميع، أصحاب الامتيازات، والمراكز المرموقة، وترسانة الأسلحة، والتحالفات الاستعمارية الدولية، الذين كانوا يركبون الخيل ،  ويضربون الشعب الهندى بالرصاص والعصا والكرابيج، ولم يبق إلا «غاندى» والشعب الهندى.