رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ثورة عكاشة».. أسرار من حياة أيقونة الثقافة والفنون فى مصر

عكاشة مع الرئيس عبد
عكاشة مع الرئيس عبد الناصر

صدر حديثًا عن الجمعية المصرية لكُتّاب ونقاد السينما كتاب «ثورة عكاشة»، للكاتب سمير شحاتة فى 250 صفحة، يرصد خلاله إنجازات ثروت عكاشة، أول وزير للثقافة فى العهد الجمهورى.

كما يقارن بين طريقة عمل الوزارة الأولى والوزارة حاليًا خلال فاصل زمنى نحو ٦٠ عامًا، ويركز على نشاط أكاديمية الفنون ومعاهدها، والثقافة الجماهيرية وقصورها.

ويسلط شحاتة الضوء على دور «عكاشة» فى إنقاذ معابد النوبة الـ١٧ من الغرق، وعلى رأسها معبد أبوسمبل، ومعجزة نقله من مكانه بالمعايير والحسابات المعمارية والفلكية للمصريين القدماء نفسها.

وذكر الكاتب بالتفصيل موقف ثروت عكاشة من اعتقال عشرات الكتّاب والأدباء والفنانين فى عهده، وكيف قدموا فى العهد نفسه عقب الإفراج عنهم أفضل وأجرأ الأعمال التى تعد علامات مهمة بتاريخ الفن والثقافة المصرية.

محطات عديدة مرّ بها الراحل «عكاشة» منذ بداية عمله بمجال الصحافة ومشروعه الثقافى الذى ركز عليه، فضلًا عن توليه أول وزارة للثقافة، وغيرها من الكواليس التى يكشفها الكتاب، ونرصد أبرزها فى السطور التالية.

وأسند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رئاسة تحرير مجلة «التحرير» إلى «عكاشة»، لأنه رأى أنه الأنسب بسبب اشتغاله فى الصحافة منذ عام ١٩٤٥، وحصوله على دبلوم الصحافة من كلية الآداب عام ١٩٥١، إضافة إلى أنه متمرس فى الكتابة.

وعقب ذلك بدأ «عكاشة» اختياره هيئة التحرير، وقال صراحة فى أول اجتماع إن المجلة ليست منبرًا لليمين أو اليسار، وبالفعل رحب الجميع بهذا التوجه، ولاقت المجلة رواجًا كبيرًا وغير مألوف فى ذلك الوقت.

بعد فترة، وتحديدًا بعد أن كتب الدكتور طه حسين مقالًا فى المجلة يعيب فيه على رجال يوليو تسمية ما قاموا به «حركة»، وينتقد فيه استخدام آخرين وصف «الانقلاب» أو «الحركة المباركة» أو «النهضة»، وراح يندد باستخدام تلك الكلمات، وأصر على أن تحمل ٢٣ يوليو ١٩٥٢ اسم «ثورة»، بعد ذلك المقال بالتحديد لم تدم العلاقة الطيبة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة و«عكاشة» طويلًا، حيث رأى بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أن الاتجاه التحريرى للمجلة «تحريضى».

وفى عيد الثورة الأول «٢٣ يوليو ١٩٥٣»، قرر «عكاشة» كتابة جانب من قصة الثورة الحقيقية، ودعّم مقاله بالصور الزنكوغرافية لبعض وثائق تحرك سلاح الفرسان فى ليلة الثورة، بعنوان «هكذا قمنا بالثورة».

تناول فى مقاله تفاصيل الليلة وتحركات سلاح الفرسان، دون أن يذكر اسم صلاح سالم، العضو البارز فى مجلس قيادة الثورة، ما أثار غضب الأخير.

وعن هذا الأمر، قال «عكاشة»: لم يكن ذنبى أن الظروف وضعتنى فى موقع حساس ليلة الثورة، وأن أوامر تحركات سلاح الفرسان صدرت بخط يدى، لكن يبدو أن ذلك لم يعجب بعض الذين تولوا مقاليد الأمور.

فى اليوم التالى لنشر المقال عقد صلاح سالم، بصفته وزيرًا للإرشاد القومى، مؤتمرًا صحفيًا وصف فيه مجلة «التحرير» بأنها لم تعد تعبّر عن رأى القوات المسلحة ولا عن رأى مجلس قيادة الثورة.

يقول شحاتة فى الكتاب: كان هذا الموقف بمثابة إعلان رسمى من الحكومة لسحب الثقة من مجلة «التحرير»، وتقرر إصدار المجلة عن دار التحرير وإخضاعها للرقابة، ما يعنى تغيير سياسة المجلة، وبالتالى يتحول «عكاشة» من ثائر وصاحب رأى إلى مهادن يسعى فى سبيل البقاء لتقديم التنازلات. توجه «عكاشة» إلى بيت جمال عبدالناصر فى الليلة نفسها، محتجًا على القرار الذى أصدره «سالم»، لكن الزعيم لم يعطه إجابة شافية، فتقدم باستقالته من رئاسة مجلة التحرير.

يرى «شحاتة» أن عبدالناصر كان يؤمن بأن تحقيق النهضة لن يتم بازدهار الصناعة فحسب، ولكن يلزم نهضة ثقافية تحدث بالتزامن، وأن «للقلم رسالة فى شحذ وجدان الأمة لا تقل عن رسالة المدفع فى حماية حدود الوطن، وفى تضافرهما معًا ما يتيح للأمة التطور والارتقاء.. ولا ننسى أنه لأول مرة فى التاريخ المصرى تنشأ وزارة للثقافة وأخرى للبحث العلمى عقب ثورة ١٩٥٢».

وفى إطار الاهتمام بوجود مشروع ثقافى، قال عبدالناصر، لـ«عكاشة»: «علينا أن نغرس بذورًا جديدة لتنبت لنا أجيالًا تؤمن بحقها فى الحياة والحرية والمساواة، فهذا هو العناء، وهذا هو العمل الجاد، إن مهمتك هى تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصرى، وأعترف بأن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان».

وبدأ كيان وزارة الثقافة يتبلور دون مسمى رسمى، حين تأسست وزارة الإرشاد القومى فى أول عهد الثورة، وجاء أول ذكر لوزارة الثقافة فى أكتوبر ١٩٥٨ حين أنشئت فى مصر فى ٢٢ فبراير عام ١٩٥٨، وحملت اسم «وزارة الثقافة والإرشاد القومى»، كانت نتاجًا لثورة ١٩٥٢ والتحرر من الاستعمار، وكان أمام ثروت عكاشة طريقان عليه أن يسلكهما معًا، أولهما قصير والآخر طويل، يرمى الطريق القصير إلى إمتاع المواطنين بالثمار العاجلة للثقافة التى تتنوع بين مسرحية جيدة وفيلم ممتاز ولوحة أخاذة وكتاب ممتع وبحث شيّق إلى غير ذلك من ثمار الثقافة، أما الطريق الطويل فيهدف إلى تهيئة المناخ على المدى البعيد بإنشاء المعاهد الفنية لتخريج الفنانين المبدعين.

وأضاف مؤلف الكتاب: «رسخت فى نفس ثروت عكاشة ألوان من الاتجاهات والركائز، على رأسها النظر إلى الثقافة نظرة إنسانية تحفز البشر على التضامن من أجل الارتقاء برفاهيتهم العقلانية والوجدانية، بذلك تكون الثقافة للمتعلم وغير المتعلم على السواء، الثقافة هى علوم الحياة، فهى كالبحر تصب فيه أنهار المعارف جميعًا، علمًا وفلسفة وفنًا وأدبًا».

خلال الفترة التى سبقت انتخاب أنور السادات رئيسًا للجمهورية فى شهرى أكتوبر ونوفمبر ١٩٧٠، صدرت توجيهات للوزراء بأن يقود كل منهم مسيرة من موظفى وزاراتهم وعمالها، والتوجه بها إلى قصر القبة لمبايعة الرئيس الجديد.

وجد «عكاشة» فى هذا التوجيه ما يجافى كرامة الوزراء ومكانتهم ومسئوليتهم، فطلب من نجيب محفوظ أن يتولى ترتيب هذا الأمر مع العاملين بالوزارة.

تصدر الوزراء الباقون المشهد وهم فى مسيرة المبايعة، وكان من الطبيعى بعد كل ذلك أنه مع أول تشكيل وزارى فى ظل رئاسة السادات للجمهورية استبعاده من وزارة الثقافة.

واستطرد «شحاتة»: «استدعت رئاسة الجمهورية ثروت عكاشة لمقابلة الرئيس الجديد، وبعد أن هنأه بالمنصب بادره السادات بقوله إن الرئيس عبدالناصر أوصاه بالسهر على راحة الضباط الأحرار، فعرض عليه منصب سفير مصر فى باريس».

اعتذر «عكاشة» عن عدم قبول المنصب وتحجج برغبته فى التفرغ لاستكمال موسوعة «تاريخ الفن».. فإذا هو يبدى اندهاشه، موضحًا أن إعفاءه على هذا الوجه سوف يظهره بمظهر من يتخلص من الضباط الأحرار.

وقدّم «السادات» عرضًا آخر لـ«عكاشة» ليصبح مستشارًا للرئيس دون أن يحدد مجالًا بعينه، فاقترح «عكاشة» أن يعمل مساعدًا له للشئون الثقافية بما له من خبرة فى هذا المجال، فقال «السادات» راضيًا: «ماشى» على أن تكون مهمتك التخطيط لا التنفيذ، إلا فيما يتصل بإنقاذ آثار النوبة فعليك مواصلة جهودك فى هذا الملف.

وتابع: «طلب السادات منه إعداد مشروع متكامل لإحياء ذكرى عبدالناصر، وهو ما تقبله بحماسة، وعكف على الإعداد لهذا المشروع مستعينًا فيه بصفوة من المفكرين، وعندما انتهى منه أرسله للسادات، لكنه لم يتلق ردًا».

ومضت السنون دون أن يُكتب لهذا المشروع أن يتحقق، وكان ما حدث بعد ذلك يناقض اتجاه إحياء ذكرى عبدالناصر، إذ بدأت حملة للتشهير به. وعن ذلك قال «عكاشة»: لا شك أن «السادات» كان «مزكيها ومضرمها»، يقصد الحملة على إرث عبدالناصر، كما قرر «السادات» إلغاء وزارة الثقافة ودمج مؤسساتها بوزارة الإعلام، وهى الخطوة التى وصفها «عكاشة» بأنها «عودة بمصر ألف خطوة إلى الوراء».

دور مؤثر لعبه «عكاشة» فى إنقاذ التراث التاريخى الإنسانى العظيم وبعض الآثار، مثل معابد النوبة الـ١٧، إلا أن الدكتور جمال مختار، الرئيس الأسبق لهيئة الآثار، كتب فى مقال له بعنوان «تراث الأسلاف ليس للبيع»، عام ١٩٩٨، أن هذا النشاط غير العادى وهذا التنقيب الذى لم تشهده منطقة النوبة طوال تاريخها أسفر عن اكتشاف آلاف القطع الأثرية التى يشكل جانبًا كبيرًا منها مقتنيات متحف النوبة.

وتابع: «لمن المضحك أن الدكتور ثروت عكاشة لم يُدع إلى الاحتفال بافتتاح متحف النوبة يوم ٢٢ نوفمبر ١٩٩٧، مع أنه صاحب الفضل الأول فى وجوده، إنه عقوق وزارة الثقافة بالنسبة للرجل الذى كان كل ما جرى فى النوبة من غرس يديه.. المؤلم والمحزن أن يأتى تكريم هذا الرجل وإنجازه من غير المصريين».