رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قمة «بوتين- أردوغان» ومائدة اللوغاريتمات السورية

 

السبت الماضى هدد وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف بالتصعيد فى محافظة إدلب السورية، ليس عبر القصف المتواصل الذى يشهد مؤخرًا مستوى متقدمًا فعلًا، إنما أيضًا عبر إيقاف إدخال المساعدات للمحافظة التى تخضع للحماية التركية. جاء هذا الحديث الروسى خلال مؤتمر صحفى عقده السبت فى نيويورك، عقب مشاركته فى الدورة الـ٧٦ للجمعية العامة للأمم المتحدة، واصفًا إدلب باعتبارها البؤرة الإرهابية الوحيدة المتبقية فى عموم سوريا، ومدافعًا عن استخدام حق القوة الروسية كونها بناءً على قرار مجلس الأمن الدولى «رقم ٢٢٥٤». ويبدو أن التهديد الروسى لم ينتظر طويلًا حتى قام بعدها بساعات الطيران الروسى، على مدار يومين متتاليين بشن غارات مكثفة على مناطق النفوذ التركية شمال سوريا. بالتحديد فى ريف «عفرين»، حيث جرى استهداف مقر عسكرى للقوات والفصائل الموالية لأنقرة، الموجودة فى منطقة باصلحايا وجبل الأحلام فى ناحية شيراوا الواقعة ضمن مناطق نفوذ القوات التركية وفصائل ما يعرف بـ«الجيش الوطنى»، وذلك فى إطار التصعيد الروسى على مناطق «غصن الزيتون» التى تسيطر عليها القوات التركية والموالين لها.

بدا هذا المشهد كمحاولات إضافية للضغط الروسى ميدانيًا على تركيا، عساها تأتى بثمار تحمل مكاسب لتسويات سياسية تأخر إنضاجها مع أنقرة لسنوات، قبل أيام من لقاء الرئيس التركى بنظيره الروسى فى مدينة «سوتشى»، الذى يحمل اسمها تفاهمات نجح النظام على إثرها بالمساعدة الروسية فى استرداد عديد من المناطق، لتبقى أخرى عصية على التطهير من المكون الإرهابى الذى ما زال يتمتع بمساحة حركة كبيرة، خاصة بعد التداخل والحماية من الجانب التركى، الذى صار راعيًا لها وللمسلحين من الكيانات الأخرى التى لا تختلف كثيرًا عن نمط الميليشيا المسلحة. وفى الوقت الذى تذهب فيه روسيا إلى هذا المنحى التصعيدى والتحديد بأن المباحثات القادمة مقصورة على بحث قضية التواجد الإرهابى المسلح، وإدارة حوار غير مباشر بين أنقرة ودمشق حول سبل إبعاد هؤلاء، وانتزاع سيطرتهم على هذه المناطق التى تشكل حجر عثرة كبيرة أمام الوصول إلى محطة التسوية النهائية، التى تسمح للنظام السورى بممارسة السيادة الكاملة على كل مناطق الدولة الرئيسية. يصر رجب أردوغان فى المقابل على أن لقاءه الرئيس الروسى على أهميته لن يشمل إدلب وحدها، بل مستقبل الوضع السورى بشكل عام أيضًا، فضلًا عن العلاقات الثنائية بين البلدين، مؤكدًا ثقته بأن اللقاء سيتوج بتبنى قرارات مهمة بالنسبة للعلاقات بين البلدين، ينتقل بها إلى مرحلة أنشط على صعيد كل الملفات التى يتداخلان فيها معًا.

لا يأتى تأكيد أردوغان على تلك الرؤية من فراغ، فكما تمتلك روسيا أوراق ضغط تفعل جانبها الخشن وقت الحاجة، أيضًا لدى تركيا مفاتيح ومسارات اختراق نجحت فى تدعيمها طوال سنوات انخراطها السابقة ليست فى سوريا وحدها، بل على مجمل الخريطة الجيواستراتيجية التى تجمعها بالدب الروسى وبغيره من القوى الكبرى الفاعلة. على سبيل المثال السورى الذى يعنينا اليوم، فكما استبقت روسيا لقاء الرئيسين بالغارات الجوية وعمليات القصف، قامت تركيا هى الأخرى وعلى ذات الساحة بتنفيذ عملية استخباراتية نوعية، بطريقة رسائل الاستباق الذى أرادت موسكو اعتمادها فيما بينهما. ففى الوقت الذى نجحت فيه روسيا فى فتح قنوات اتصال وحماية مع المكون الكردى السورى، واعتبرت الخطوة متغيرًا مهمًا فى «تليين» العلاقة نسبيًا بينهم وبين النظام السورى، فيما صار الجانب الكردى متمتعًا بدفء الحماية المزدوجة الأمريكية والروسية. قامت الاستخبارات التركية بتنفيذ عملية أمنية فى مدينة القامشلى السورية، استهدفت عضوًا بارزًا فى «حزب العمال الكردستانى» (PKK) هو «إنجين قراصلان» المصنف على لوائح الإرهاب، المطلوب لـ«الإنتربول» ومدرج ضمن النشرة الحمراء للمطلوبين الدوليين. استخدمت أنقرة لتنفيذ العملية فريقًا استخباراتيًا نجح فى توفير معلومات الرصد المطلوبة، كى تزود بها «مسيرة» تركية استهدفت عربة كانت تقل قراصلان على الطريق الرئيسى «القامشلى- الحسكة».

كما تدرك الأجهزة الأمنية السورية والتركية أهمية «إنجين قراصلان»، وصلت الرسالة أيضًا إلى الجانب الروسى الذى يعلم عن المذكور الكثير أيضًا، يكفى وصفه بأنه القيادى الكردى ذو المستوى الأعلى الذى يتم تحييده فى سوريا حتى الآن، حيث يعد قراصلان من قيادات الحزب التاريخية التى تلقت تدريبها على يد «عبدالله أوجلان» شخصيًا، ويتولى منصب قيادة ميدانية لحزب العمال من مدينة قامشلى يخطط منها لأعمال ضد الأتراك فى سوريا والعراق بل وفى داخل تركيًا أيضًا. لهذا بدت العملية التركية الثمينة رسالة موجهة لأطراف عدة، لا تقتصر على روسيا وحدها وإن ظلت هى المعنية الأولى بها، مفادها أن أنقرة تمتلك من القدرات والعناصر على الأرض التى يمكنها مساعدتها فى اختراق من هذا النوع وقت الحاجة إليه، فضلًا عن الدقة وجودة التنفيذ التى لا تنقصها فى مواجهة ضغط روسيا على حلفائها باستخدامها للقوة المفرطة بحقهم، واستخدام البطش الجوى لتدمير ممتلكاتهم ونقاط ارتكازهم المحورية التى قضت أنقرة سنوات فى تثبيتها والدفاع عنها.

يبقى النشاط الإرهابى، وهو المكون الذى تتخذه كل الأطراف الذريعة متنوعة الأوجه القابلة للاستخدام وفق الأجندات المختلفة، ليس ببعيد كثيرًا عن تلك التجاذبات، فالجميع يستخدمونه ويألبون بعضه على بعض طوال الوقت. اليوم تشهد ساحته الداخلية وعلاقاته البينية صراعًا شرسًا بين «هيئة تحرير الشام» وتنظيم «حراس الدين» الفرع القاعدى فى سوريا، حيث يتهم الأخير الهيئة بأنها تعمل لصالح قوات التحالف وتقوم بتمرير معلومات استخباراتية عن قيادييها، من أجل تصفيتهم كى تخلو للهيئة بقيادة الجولانى ساحة السيطرة الكاملة والمطلقة على إدلب. فى حين ردت تحرير الشام على قاعدة سوريا ببيان شديد اللهجة عنوانه «كفاكم ضجيجًا على وسائل التواصل الاجتماعى»، ردًا على البيانات الصادرة عن «أبوهمام الشامى» أمير تنظيم «حرس الدين»، معتبرة أن بيانات الشامى تضمنت إطلاقات خطيرة منها وصفه للهيئة بأنها «طائفة ممتنعة عن حكم الشريعة»، وهو ما يعنى إباحة القتال معها وفتح الباب أمام تكفيرها. ورفض المجلس الشرعى لـ«هيئة تحرير الشام» النزول على دعوات التحكيم التى أطلقها أبوهمام الشامى، بل وذهب إلى اتهام تنظيم «حراس الدين» بنفس التهمة التى اتهم بها تحرير الشام وهى «الامتناع عن حكم الشريعة»، وذلك لرفضه دعوات الاندماج بين الهيئة والتنظيم، وعدم الانصياع إلى دعوات التوقف عن انتقاد القيادة الحالية لـ«تحرير الشام» وعلى رأسها أبومحمد الجولانى. كما أورد المجلس أيضًا اتهامًا بحق التنظيم، يشير إلى أنه قفز على اتفاقات سابقة تنص على اعتبار «تحرير الشام» السلطة الشرعية الموجودة فى شمال سوريا، والتحاكم إلى محاكمها التابعة لوزارة العدل فى الحكومة المؤقتة، كما رفض الامتثال لتوجيهات الهيئة بتوحيد غرف العمليات العسكرية وضمها لـ«غرفة الفتح المبين» التى أنشأتها الهيئة، والتوقف عن تنفيذ أى عمليات عسكرية فى مناطق الشمال السورى دون إذن الهيئة. وهى فى مجملها معطيات تنذر بنشوب حرب داخلية بين التنظيمين، تحركها وتغذيها الأطراف الممسكة بخيوط الحركة الكلية فى تلك المناطق من «الشمال السورى» الذى يتردد فى بياناتهما. والثابت أن هذه المشاهد لن تغيب ولا أصحاب القيادة فيها عن مائدة الرئيسين الروسى والتركى، باعتبارهما الأقرب من الآخرين لهذا المشهد السيريالى الملغز.