رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فتحى عبدالله

أتفادى دائمًا المشاركة بالحديث أمام الجمهور فى الندوات، لأسباب تخصنى، بينها أننى لا أستطيع التعبير عن آرائى وأفكارى وهناك من يراقبنى، ولا أميل إلى القراءة من ورقة، لأننى سأرتبك لا شك، وأفضل الكتابة عن الشخص المحتفى به أو عمله وهذا ما أجيده، أو أعتقد أننى أجيده.

وحين دعانى أصدقائى فى منتدى الشعر المصرى للحديث عن فتحى عبدالله، الأحد المقبل، فى «حزب التجمع» لم أتردد فى قبول الدعوة، لمنزلة فتحى فى قلبى ولمنزلته فى الحياة الثقافية.

أكثر من خمسة وثلاثين عامًا من الصداقة والشعر جمعتنى بالدرعمى النقى، الذى رحل فى فبراير الماضى، فى أيام الفقد الغزير التى تحاصرنا من كل اتجاه، كنا معًا ندافع عن معنى عظيم فى الحياة يصعب توصيفه، عشنا معًا فى شقق بسيطة، فى بولاق الدكرور وبين السرايات وحلوان والغورية ومصر القديمة والجيزة ووسط البلد.

كلنا أبناء فقراء هبطنا على هذه المدينة لزراعة الطمأنينة فى أزقتها، سيطرنا بأحلامنا على مساحات ليست قليلة من الليل، فتحى ومحمود قرنى وهشام قشطة وأسامة خليل وحسن خضر وإبراهيم عبدالفتاح ووفيق الفرماوى وشحاتة العريان ومجدى الجابرى كانوا معًا فى سياق ما، وغير مشغولين بالمؤامرات التى تُحاك من الأجيال الأكبر سنًا للإطاحة بنا وبتجاربنا، لم نفعل شيئًا غير الكتابة.

فتحى كان أكثرنا إدراكًا بالتحولات التى يشهدها الشعر العربى، وكان أيضًا أكثرنا حِدة فى مواجهة قليلى القيمة، اختلفنا كثيرًا، ولكننا كنا نعرف أنه لم يتربح من رأى ولم يطمح فى مكان أو مكانة.

أفكاره اللامعة كانت تضىء ليالينا البهيجة، كان يرى أن مشروع أساتذتنا من الرواد مرتبط بمشروع الطبقة الوسطى ممثلًا فى ثورة يوليو، وكان يرى أن فاعلية نصوصهم قد انتهت لتناقضها مع اللحظة الراهنة التى نعيشها الآن، وأن حضورهم مستمر لأن السلطة لم تستطع أن تخلق نموذجًا آخر يؤدى الدور نفسه، وكان يرى ولست معه فى هذا، أن وجودهم فى الصراع معطل ولا يرسخ إلا للقيم القديمة.

كان يعتبر ازدهار الرواية الزائف تقف خلفه سلطة ما، تسعى لأداء أدوار سياسية فى الصراعين الداخلى والخارجى، وهى أدوار لن يقبل بها الشعراء خصوصًا شعراء قصيدة النثر، لأن نمط قصيدتهم شخصى وحميم وقريب من كل الطبقات، ويحدث حالة إنسانية نادرة تساعد الجماعة على اكتشاف ذاتها، مما يحدث نوعًا من التغيير الاجتماعى، يدفع بالسلوك الإنسانى إلى منطقة أعلى، لأنه نمط إنسانى يصلح للجماعة ولا يصلح لرغبات الإدارة السياسية.

فتحى كان يرى أن قصيدة التفعيلة ارتبطت بصعود الطبقة الوسطى، التى أعلت من قيمة الفرد فى مواجهة القبيلة، وبأنماط مختلفة تتوافق مع الحكايات الكبرى المطروحة سواء كانت قومية أو ماركسية، ومع سيطرة الرأسمالية على السوق العالمية وانحسار الطبقة الوسطى أخذت تتشكل ملامح جديدة فى كل الثقافات، ومعها أصبح نمط قصيدة النثر هو الشكل الأمثل لشعرية هذه الحقبة، بكل ما فيها من تناقضات حادة وعنيفة، فالتاريخى يومى، واليومى يأخذ شكلًا أسطوريًا، وفيه تجاورت الهويات المتصارعة والإثنيات، لا للتخلص من وجودها، وإنما لتعطى وجودها معنى آخر لا يقوم على التناقض والصراع.

وفى الشعر ليس هناك صراع بين الأشكال إلا فى المراحل الانتقالية فقط، صاحب راعى المياه، وسعادة متأخرة، وموسيقيون لأدوار صغيرة، وأثر البكاء، والرسائل عادة لا تذكر الموتى، هو صاحب طريقة مختلفة فى قنص الشعر، لأنه كان يؤمن بأن الشاعر لا يملك إلا الهلوسات ولا يقين له، وقصيدة النثر شكل شعرى ككل الأشكال لا أهمية له إلا فى سياق حضارى يبرر وجوده وهى ليست اكتشافًا جديدًا وبها الكثير من التنوعات بعدد الشعراء الموهوبين فى الثقافة العربية.

هو لا يُشبه أحدًا، وعاش محبًا نظيف القلب واليد، ينتمى لليسار ولكن غلالة من الصوفية حرست حياته، فظل ريفيًا بخطوات خضراء يعرفها من اقترب.