رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا مواطنة بدون ضرائب!

أكبر سمة يمكن أن تميز الرأى العام المصرى «قطاع منه على الأقل» هى خلط الحابل بالنابل، خلط الحق بالباطل، خلط ما ثمنه قرش على ما ثمنه قرشين.. ثمة شعور مصرى تاريخى بالغبن من السلطة، هذا الشعور قد تكون له جذور تاريخية من عصور قديمة، من الجائز مثلًا أن يكون سببه طريقة حكم بعض الأسر الفرعونية المختلفة، أو طرق حكم الغزاة الذين تعاقبوا على مصر فى عصور مختلفة وطويلة، أو حكم الولاة الأتراك المتسلطين، أو ممارسات بعض سلاطين المماليك ورجالهم.. كل هذا جائز ووارد ومفهوم.. قد يكون من أسباب هذا الشعور العام هو ندرة الفرص، وعدم تمكين الجميع، وغياب مفاهيم العدل الاجتماعى، وشيوع الواسطة والزبائنية.. فى بعض الأوقات فى مصر.. هذا كله جائز ومفهوم.. لكن المشكلة أنه يختلط لدى البعض بما يمكن تسميته بالتعبير الشائع «البلطجة» وهو تعبير أصبح يقصد به عدم أداء المواطن لما عليه من واجبات قانونية وسياسية استغلالًا لهذا الشعور.. أو مجاراة لهذا الشعور.. أو لأنه يضحك على نفسه بهذا الشعور.. من أمثلة هذه «البلطجة» بعض المنشورات التى تداولها رواد التواصل الاجتماعى ومفادها الاعتراض على دفع الضرائب، بحجة أنهم لا يحصلون على خدمات من الدولة!، والمناسبة كانت قرار مصلحة الضرائب بتحصيل الضريبة على الدخل من صانعى المحتوى، هذه المنشورات تكشف عن جهل فاضح.. فالمواطن فى الأدبيات السياسية لا تكتمل مواطنته إلا إذا دفع الضرائب وشارك فى الانتخابات، وبدون هذا لا يكون مواطنًا كامل الأهلية، ثم إنه ليس صحيحًا أننا لا نحصل على خدمات مقابل الضرائب التى ندفعها.. نحن نحصل على خدمات كثيرة، بعضها قد يكون فى حاجة إلى تحسين.. أو تطوير ولكن هذا موضوع آخر.. نحن نسير على الطرق والكبارى وهذه تنفق الدولة عليها من حصيلة الضرائب، ونحن نتمتع بالأمن وبكافة خدمات الشرطة، والسجل المدنى.. إلخ وهذه تمولها الضرائب، وعندما تسافر للخارج تلجأ لسفارة بلدك إذا ألم بك طارئ وهذه تمولها الضرائب.. وأنت تعيش فى بلد يحمى حدوده جيش وطنى ميزانيته من الضرائب.. ومن المؤسف جدًا أن يضطر الإنسان لذكر هذه الحقائق البسيطة والمبدئية، ردًا على ترهات أشخاص يشاركون بالفعل فى صياغة الرأى العام، ويظنون أنهم أصحاب وجهات نظر سياسية وثقافة عامة.. من علامات «البلطجة» أيضًا اعتقاد بعض المصريين أن لهم حقوقًا وليس عليهم واجبات، وأن العمل أمر ثانوى، وقد التقيت بصديق قادم من أوربا فأقسم لى أن الناس هناك تجرى طوال الوقت لتلبى احتياجاتها وأنهم يستغلون الوقت الطويل فى المترو ذهابًا للعمل إما فى القراءة الجادة، أو فى النوم، وأن الكثيرين يضبطون المنبه ليوقظهم قبل قليل من المحطة التى سينزلون فيها اعتمادًا على دقة مواعيد المترو هناك!! إن مشكلتنا أننا نتخيل أننا يمكن أن نصبح دولة متقدمة دون أن ندفع ثمن التقدم، بل إننا لا نعرف ما ثمن التقدم نفسه، لأننا لا نقرأ تاريخ العالم، ونكتفى بالانكفاء على داخلنا وقراءة سير الأقدمين ومواصلة الإعجاب بأنفسنا باعتبار أننا «خير أمة أخرجت للناس» رغم أننا لا نسعى للأخذ بالأسباب التى تجعلنا خير أمة، ولا حتى التى تجعلنا أمة عادية!! لقد دفع الأمريكيون مثلًا ثمن التقدم سنين متواصلة من العمل والدأب والابتكار، ودفع الأوروبيون نفس الثمن، سواء فى الحروب الدينية الطويلة التى نتج عنها انتصار قيم الحرية الدينية والمدنية، أو فى العمل الشاق للنهوض من تحت رماد الحرب العالمية الثانية، ولعلنا نذكر جميعًا مقولة ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الذى قال للبريطانيين حين تولى منصبه «ليس عندى لكم سوى الدم والعرق والدموع» لكنه استطاع العبور ببريطانيا من هزيمة شبه مؤكدة وتغيير مصير العالم نفسه.. إننا ما زلنا أسرى الثقافة الأبوية التى تتخيل أن الدولة مسئولة عن عملنا وتحقيق طموحاتنا وأماننا المادى.. والحقيقة أن الدولة مسئولة فقط عن ضمان تكافؤ الفرص، وتحسين شروط المنافسة.. لكن هذا موضوع آخر، إننا ما زلنا أسرى اعتقاد المواطن أن الحكومة «أبوه وأمه» على حد تعبير الأستاذ وحيد حامد فى أحد أفلامه.. نحن فى حاجة لبناء وعى جديد لأنفسنا، عن العالم، وطرق الحياة فيه، وما يمتازون به عنا، وما نختلف فيه عنهم، وإلا فإننا سنبقى محلك سر، وسنبقى نردد المثل القائل «بصل بخمسة وبخمسة بصل» بمعنى أنه لا جديد يدخل رءوسنا لينتج عنه أفكار جديدة.. ويبدو أن هذا سيظل حالنا لبعض الوقت.