رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أغرب الطرق التي اتبعها جمال عبدالناصر لاختيار وزرائه

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

 

لو أن أحدهم تابع خريطة الإعلانات في صحيفة الأهرام منذ عام 1958 وحتى 1968 سيجد أن هناك إعلانات غريبة جدًا لا تكاد تعي ما تقول، وغالبًا ما ستتركها لأنك مهما بحثت فلن تجد شيئًا يمكن أن يفسر لك، فمثلًا ستجد رسالة تقول "إلى ولدنا أحمد.. أكتب لوالدك وسيهتم بطلباتك"، وربما يتبادر إلى ذهنك سؤال "لماذا لا يكتب والد أحمد لولده مباشرة وإن كان سيقرأ الرسالة في جريدة الأهرام فبإمكانه أن يقرأها كرسالة إليه بعيدا عن تكلفة الإعلان".

ولكن هذه الإعلانات لها قصة كبيرة في حياة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر فقد حدث وأن اختار منها وزراء، يقول الكاتب الصحفي الكبير ضياء الدين بيبرس في كتابه "الأسرار الشخصية لجمال عبد الناصر:" أن هذه الحالة لم تكن الوحيدة التي لجأ فيها عبد الناصر إلى نشر إعلانات في الأهرام بالذات لأغراض تتعلق بالحكم ولم يكن الإعلان أيضًا هو الطريق الوحيد وإنما هناك حالات تم فيها اختيار وزراء عن طريق البريد، وحالات كان مبرر اختيار الوزير فيها أنه طويل اللسان أو جارح النقد".

حكاية محمود الجيار

كان محمود الجيار هو خرزة عبدالناصر الزرقاء وفي يوم طلب منه عبد الناصر– كما روى الجيار نفسه- طلبًا غريبًا، قال ناصر: "اسمع ياجي أريد أن تكون عيني التي أري بها حقيقة ما يجري، وأذني التي أسمع بها زفرات الناس، أن الأجهزة السرية والعلنية تلون تقاريرها عادة بما يرضي الحاكم أو يطمئنه أو يشبع غروره، أو بما يؤكد أهميتها له واحتياجه إليها فمن غير المعقول أن يرفع لي وزير الداخلية تقريرا يقول لي فيه أن الامن غير مستتب وإلا كان معنى ذلك أنه يعرض نفسه للاستغناء عن خدماته، ومن غير المتصور أن الأجهزة التنفيذية ستتولى مصارحتي بمتاعب الناس، منها أو بسخط الناس عليها.

وأكمل ناصر: "وإلا كانت بذلك تحفر قبرها بيدها، وإذا فإن صمام الأمان الخاص بي هو أن أظل على اتصال حقيقي ومباشر بالناس، وهذه هي مهتمك، أن تكون موصلا جيدا لا عازلا لكل الأفكار والآراء والأخبار، والشتائم والتهجمات التي تحتويها خطابات الناس، وأحذر أن تخفي عني شيئا مهما بلغت مرارته أو حرارته، وعلى كل حال يا جي فإن ناقل الكفر ليس بكافر".

وبناءً على ما سبق فإن ناصر كان يفضل الاتصال بالناس عن طريق عين أمينة لا تخفي سوءًا ولا تنافق لمصلحة شخصية وذلك عن طريق خطاباتهم المباشرة الموقعة وغير الموقعة، وتنظيم هذه العلاقة وهذه القناة الهامة للاتصال، بإشراف رجل موثوق به يقوم بدور الموصل الجيد لا العازل الجيد.

لعبة الإعلانات

كان بريد عبدالناصر يحمل كل ما يمكن أن يخطر على البال من رسائل وأفكار وتبليغات وسباب ومحبة وعداوة وأنشأ الجيار جهازًا بشريًا وظيفيًا كافيًا لقراءة كل سطر في هذا البريد قراءة متأنية وتصنيف خطابات الناس وتحليلها وتوجيهها إلى الجهات المختصة.

مع متابعة منهجية منظمة، وكانت تعليمات عبدالناصر صريحة، أولا أن يعرض عليه يوميًا ملخص لأي خطاب هام وعاجل أو يحوي فكرة لامعة أو خبرًا خطيرًا، ثانيًا أن يرفع إليه كل أسبوع تقريرًا صريحًا عن اتجاهات الرأي العام المصري كما تتجلى في خطابات الناس، مع نماذج لأهم الخطابات اللافتة، ثالثًا أن يقدم له تقريرًا أسبوعيًا آخر في منتهى السرية يسمى تقرير الرأي العام المعادي يسجل صورة صريحة للخطابات المجهولة الإمضاء والتي كان مرسلوها يأخذون راحتهم في التهجم عليه، وكان عبد الناصر يعلق بخطه على هذه التقارير ويصدر بشأنها تعليمات للوزراء المختصين. 

كذلك كان يحدث أحيانًا أن يصر على تحديد موعد لبعض مرسلي تلك الخطابات على الرغم مما كان يظفر به وقتها من مشغوليات تجعل بعض كبار المسئولين أحيانًا يصطفون في قوائم انتظار طويلة من أجل تحديد موعد لمقابلته، وكان بعض مرسلي هذه الخطابات يقدمون أنفسهم في صورة غريبة، كأن يرسل أحدهم تلميحات إلى أن عنده افكار معينة في موضوع معين أو أخبارا مهمة بشان قصة محددة، ويختتم هذا الراصد خطابه قائلا بما كاد يكون معناه: "إذا صادفت هذه التلميحات اهتمامًا منك يا سيادة الرئيس فإنني مستعد لرواية كل شئ بشرط ان تنتظرني في سيارة من رئاسة الجمهورية في يوم كذا الساعة كذا في المكان الفلاني فإذا وجدتها في الزمان والمكان المحددين فإنني مستعد للقدوم إلى أي مكان تحددونه لي، وأن اكتب تحت اشراف معاونيك التفاصيل الكاملة.

أو خطابًا يقول فيما معناه: "إذا أثار هذا الملخص فضولك يا سيادة الرئيس فتفضل بنشر إعلان في الأهرام صيغته كذا في يوم كذا وحينئذ فإنني سأكتب إليك بتفاصيل أكثر، والذي يراجع بصبر وأناة أعمد الاجتماعات في صحيفة الأهرام في السنوات ما بين 1968 و1958 يجد أحيانا إعلانات غامضة جدا ذات طابع غير عادي مكونة من سطرين اثنين غالبا وموقعه بحروف أولى من اسماء مستعارة وكانت هذه الإعلانات تنشرها وتدفع أجرها رئاسة الجمهورية عن طريق أفراد عاديين لا ينتسبون في الظاهر للرياسة وكانت الاهرام أحيانا تمتنع عن نشر هذه الإعلانات لغموضها مما اضطر عبد الناصر ذات مرة ان يكلم هيكل في أمر واحد من هذه الإعلانات ليجيز نشره دون ان يعرف الآخر أن عبد الناصر شخصيا هو الذي دفع ثمن الأعلان.

واقعتان من خطابات ناصر

وهناك حادثتان أشار إليهما محمود الجيار وأن هناك ما يربوا قليلا على أصابع اليد الواحدة من يعلمون بهما، وقد لا يصدقهما العقل العادي.

الواقعة الأولى: "حدث في يوم من الأيام أن كلف عبدالناصر أحد معاونيه بأن يذهب في سيارة من سيارات الرئاسة إلى مكان بجوار مستشفى معين حدده مرسل أحد الخطابات التي أثارت اهتمامه بشدة.

كان الجيار ققد حدد رقم لوحة السيارة في إعلان غامض نشر بجريدة الأهرام مع بيان الساعة بالضبط التي ستنتظر فيها السيارة، وفي آخر لحظة وبينما كنا نستأذن الرئيس في الذهاب للمواطن المجهول إذا بالرئيس يقول لي : "اسمع.. خذني معك وفعلا ركب الرئيس السيارة معي وخرجنا من بيته بلا حرس، بل بدون أن نبين في الدفتر الخاص بمسيرة الرئيس وجهتنا وركب عبدالناصر في الكرسي الخلفي وأسبل الستائر وذهبت للمكان المحدد وامتدت يد تفتح مقبض باب السيارة وركب المواطن إلى جانبي وهو مبهور لأن رئاسة الجمهورية اهتمت بأفكاره إلى حد اتباع هذا الأسلوب الغريب، ولك أن تتصور مدى المفاجأة التي شعروا بها إلى درجة السعادة والفزع مجتمعين وهو يرى عبدالناصر شخصيًا في المقعد الخلفي للسيارة.

أما الواقعة الثانية فأغرب ففي رسالة من ذلك النوع بدا أن كاتبها انسان عاقل ومثقف وموضوعي ومستوعب تماما للأمر الذي يكتب فيه، عرض الكاتب الذي يلم يشأ ان يوقع باسمه رأيا هاما في مسألة هامة كانت تشغل الأذهان، ولكن الرأي الذي عرضه على عكس رأي عبد الناصر، وعلى طول الخط ومدعما بأسانيد ومعلومات قرية ومركزي، الأمر الذي اثار اهتمام واحترام عبدالناصر معًا.

وقد اختتم الكاتب المجهول رسالته بأن لديه تفاصيل أوفى وأنه مستعد لان يوافي بها الرئيس اذا لم يكن في هذا ضياع لوقته وأنه على كل حال لا يطلب مقابلة الرئيس وأنما فقد يطلب اشعارا بان عبد الناصر مهتم بمتابعة كل جحوانب الموضوع فغذا كان الامر كذلك فإنه يرجو أن تنشر الرياسة إعلانًا في الأهرام نصه كما يلي، إلى ولدنا أحمد اكتب لوالدك وسيهتم بطلباتك، جميل".

وما كان من عبدالناصر إلا أن طلب مني – والكلام هنا لمحمود الجيار-  أن أنشر الصيغة التالية على حسابه في الأهرام" وأنا أرويها من الذاكرة، إلى ولدنا أحمد، لماذا لا تحاول أن ترى والدك شخصيًا بدلا من أن تكتب إليه وهو سيهتم بطلباتك جميل.

وفي مساء نفس اليوم الذي نشر فيه هذا الإعلان الغامض الغريب وصلت إلى رئاسة الجمهورية برقية باسم عبدالناصر يقول فيها مرسلها: "ولدكم أحمد يا سيادة الرئيس ينتظر موعدًا لمقابلتكم"، وكانت البرقية توقيع الدكتور فلان، وكان اسمًا معروفًا في الحقل الذي تخصص فيها، وقابله عبدالناصر وناقشه في اعتراضه على سياسية الدكتور القيسوني المالية، وطلب منه أن يواجهه بتلك الاعتراضات ثم طلب منه أن يتب له عدة تقارير مفصلة حول وجهة نظره، وبعد قليل اختاره وزيرا وكانت أعجب طريقة تم بها اختيار وزير.

أذكر أنه في السنة الثالثة للثورة أعجب وهو يزور مجلس الانتاج القوي بمهندس شاب كان في درجة وظيفية صغيرة وكان سبب الإعجاب أن المهندس الشاب شرح بطريقة موضوعية متزنة حافلة بالثقة بالنفس أمام رئيس الجمهورية بعض جوانب عمل مجلس الإنتاج ثم جرؤ على أن يخالفه علنًا في آرائه أمام مهور المرافقين وكان من قمة مجلس قيادة الثورة وفي الأسبوع الثاني عينه الرئيس وزيرًا للصناعة، وهو الدكتور عزيز صدقي وكان لتوه قد عاد من بعثة في أمريكا وترقى حتى أصبح رئيسًا للوزراء.