رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجمهورية الجديدة وقواها الناعمة

لعلنا نتذكر ما حكاه الفنان الراحل نور الشريف أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي وجمع من الفنانين حول حدث شهير وقع بالرباط حين كان الرئيس جمال عبدالناصر في جولة مع الملك محمد الخامس، عندما جرى نحوه مواطن مغربي قائلاً "ريس ناصر.. سلملي على إسماعيل ياسين"، ولعل القصة تُعد بمثابة شهادة من مواطن بارتباطه الوجداني بفنان اختزل فيه مصر كلها، فمصر هي إسماعيل ياسين.. لقد كان تعلقه بنجمه المحبوب يفوق ويتجاوز كل ملابسات المشهد.
ولعل الغرض المباشر من حكاية نور الشريف بيان مدى تعلق الجماهير بفنانيهم ودور الفن في التأثير على وجدان ومشاعر المتلقي في أي زمان وأي مكان، والإشارة إلى نجاح الفن المصري في تجاوز حدود الوطن المصري إلى آفاق الوطن العربي بريادة مشهود لها. 
وفي أجواء ذكرى ميلاد إسماعيل ياسين المبدع المصري الجماهيري (15 سبتمبر 1912) وهو الفنان الغزير الإنتاج والعظيم ارتباطه بالوطن ووجدان شعبه، يُذكر بالضرورة وبكل أسف كيف كانت معاناته المالية والصحية في أيامه الأخيرة، حيث مع بدايات نشاط مسرح التليفزيون، كان ظهور جيل جديد من الفنانين، وتقول إحدى قريبات ياسين "في الفترة دي لما كان يجيله شغل، بعد ما المنتج يبعتله السيناريو يختفي، كان في أمر إنه ميشتغلش، لحساب ناس تانيه، ناس أبعدوا المنتجين عن إسماعيل ياسين، في الفترة دي حدث ركود هايل فيما يُعرض عليه، مكنش فيه فلوس زائد الضرائب، كان له في البنك 300 ألف جنيه، راح البنك عشان يسحبهم لقاهم 2 جنيه، أخدوا منه الفلوس، مستحملش وجاله شلل نصفي".
وفي مثال آخر على معاناة الكثير من مبدعينا وفرسان قوانا الناعمة في نهايات أعمارهم، نذكر ونتذكر معاناة الفنان "عبدالفتاح القصري" الذي تختلف بداية حياته عن نهايتها الحزينة، فهو المنتمي لعائلة تعمل فى الصاغة، أصحاب محلات ذهب فى الجمالية، وقد تعلم فى مدارس الفرير وكان يتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وهو الذي تألق فى فرقة الريحانى، وبدأ ابن الجواهرجى طريق الشهرة والنجومية بعدما جسد شخصية ابن البلد والحانوتى والمعلم، وتجاوزًا لتفاصيل مؤلمة، بدأت بعدها رحلة عذاب "القصرى" خلال السنوات الأخيرة من عمره بعد تدهور صحته، حيث أساءت زوجته معاملته، وحبسته فى بدروم الفيلا  بعد أن أجبرته على تطليقها، وفى عام 1964 نشرت جريدة الجمهورية، صورة للقصرى يمسك بأسياخ حديد شباك حجرته بالدور الأرضى، وكتب الصحفى محمد دوارة تعليقًا على الصورة، قال فيه: "بدأ الضوء والحياة يفارقان عينى القصرى تدريجيًا، خشيت مطلقته أن يشكوها لأحد، فأغلقت عليه الباب، ليصرخ كل يوم من وراء النافذة يطلب من السكان سيجارة، فيضحك صغار الصبية..".. وقادت مارى منيب ونجوى سالم حملة تبرع لإنقاذه من التشرد، حتى خصص له محافظ القاهرة شقة فى مساكن المحافظة، وخصصت له نقابة الممثلين إعانة شهرية قدرها "10 جنيهات"، ورحل بعد حياة حافلة بالفن والضحك والقهر والظلم والحزن..".
أعتذر للإطالة واستعراض بعض التفاصيل، ولكن كان ذلك بغرض الإشارة لنماذج من حالات لرموز من أهل الإبداع كانت معاناتهم هائلة في الفصول الأخيرة من حياتهم، للتأكيد على روعة وأهمية ما وجه به  الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بشمول الفنانين ببرامج الحماية التأمينية والرعاية ضد المخاطر، وهو القرار الذي يمثل دعمًا لـ"قوة مصر الناعمة"، يستفيد منه بشكل أساسي العاملون بالقطاع الفني الذين لا يتمتعون بوظائف منتظمة ولا يمتلكون مصادر بديلة للدخل، وذلك بهدف توفير سبل المعيشة الكريمة لهم ولأسرهم، بما يساعد على تعزيز وحماية القوة الناعمة لمصر على الصعيد الفني والإبداعي والثقافي، التي طالما مثلت إرثًا متميزًا لمصر في المنطقة والعالم كمنارة للفن والإبداع.
وتنقل لنا الأخبار أن الرئيس قد اطلع على جهود تطوير منظومة دعم وحماية الفنانين والمحاور الخاصة بشأن تحسين معاشات أعضاء النقابات الفنية والتشكيلية التي تضم كل الفئات الإبداعية والفنية، وحصر موقفهم التأميني سواء الاجتماعي أو الصحي، بالإضافة إلى مقترحات إصلاح الإطار التشريعي لتحسين الضمان الاجتماعي ورعاية أعضاء تلك النقابات، فضلًا عن جهود توفير مصادر تمويل للمنظومة الجديدة، وكذا الاستفادة من التجارب الدولية المماثلة. ووجه الرئيس بتدقيق قاعدة البيانات الخاصة بحصر وتسجيل الفنانين بمختلف فئاتهم بالتنسيق والتعاون مع النقابات الفنية المختلفة، وذلك لشمولهم ببرامج الحماية التأمينية والرعاية الاجتماعية ضد المخاطر المتنوعة مثل الشيخوخة والعجز وغيرها، التي قد تعيقهم عن أداء عملهم، خاصةً ما يتعلق بالعاملين بالقطاع الفني الذين لا يتمتعون بوظائف منتظمة ولا يمتلكون مصادر بديلة للدخل، وذلك بهدف توفير سبل المعيشة الكريمة لهم ولأسرهم، بما يساعد على تعزيز وحماية القوة الناعمة لمصر على الصعيد الفني والإبداعي  والثقافي، التي طالما مثلت إرثًا متميزًا لمصر في المنطقة والعالم كمنارة للفن والإبداع.
وعليه، أتفق مع الناقدة السينمائية الكبيرة "ماجدة موريس" في تعقيبها على المواجهة الرائعة للرئيس لمشكلة مهمة، ذكرت "هي بلاشك  مبادرة إيجابية، لا سيما بعد تكرار وتعدد حالات الفنانين الذين يعانون صحيًا وماديًا، وهو ربما الأمر الذي كان دافعًا لمثل تلك المبادرة، موضحة في الوقت نفسه أنه كانت تتوافر برامج رعاية من جانب النقابات الفنية، لكن ليست بنفس الشكل الموسع الذي تحدث عنه الرئيس عبدالفتاح السيسي، لقد باتت برامج الرعاية الحالية غير كافية..".
ويوضح المتحدث باسم نقابة المهن الموسيقية، أن "الموسيقي ليس هو النجم الكبير، وإنّما القاعدة العريضة للموسيقيين من العازفين الصغار البسطاء الذين يعملون فترة ويظلون دون عمل لفترة أخرى"، مشيرًا إلى أنّ الموسيقيين الصغار عانوا من البطالة، وكانوا في أشد الاحتياج لمد يد العون من قِبل الدولة، هناك ما يقرب من 40 ألف موسيقي، بين موسيقيين عاملين ومنتسبين"، مؤكدًا أن توجيهات الرئيس السيسي تمثل إنصافًا لحقوقهم المهدرة منذ زمن...".
إنها المرة الأولى التي يبادر فيها رئيس مصري بالإعلان بتحية قوانا الناعمة عبر إعلان اهتمامه  بالفنان المصري والتعامل معه كمواطن مصري عادي ولا يختصره في العدد المحدود من النجوم الذين يتقاضون أجورًا هائلة، وبالتالي يتصور مواطنونا أن هذا هو حال كل المبدعين بكل مستوياتهم، وأنهم لا يستحقون أي تعاطف، بل اللوم حتى في حالات المرض والعوز والكساد المهني.. هذه مبادرة لابد من تحيتها وتوجيه كل آيات الامتنان لمطلقها لتحقيقها التواصل مع أحلام مواطن الجمهورية الجديدة.