رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: هيكل.. لماذا لم يكتب الأستاذ مذكراته؟

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز

فى أواخر التسعينيات كان هيكل ضيفًا على صالون إحسان عبدالقدوس بمؤسسة روزاليوسف ودون أن يسأله أحد أو يُعقِّب على كلامه قال إنه سيختم مشواره الصحفى بكتاب عن حصاد العمر

قال لـ«سناء البيسى»: بالنسبة لكتابة سيرتى الذاتية ما زال لدىّ بعض الوقت وإن كنت أدرك أن ما تبقى منه ليس كثيرًا

تمنى فى حياته أن يعطى أى جهة ما يملكه من أوراق لتضاف لتاريخ مصر

الغالب فيما قاله هيكل والمقربون منه أنه لم يترك وراءه مذكرات

السؤال بهذه التركيبة فيه خطأ منهجى، فمن المفروض أن يكون السؤال هو: هل كتب هيكل مذكراته؟ 

بعد رحلة طويلة أستطيع أن أجزم أن هيكل لم يترك وراءه كتابًا مستقلًا، يمكن أن نقول إنه يحمل مذكراته أو سيرته الذاتية، لكن فى الوقت نفسه يمكننى أن أقول إن هيكل دوَّن سيرته المهنية والسياسية والشخصية داخل مقالاته وكتبه وحواراته، وكأنه أراد بذلك أن يقول للجميع، لقد كتبت حياتى، وليس عليكم إلا أن تعيدوا ترتيبها كما تشاءون. 

مرة واحدة فقط لفت هيكل الانتباه إلى أنه يتحدث عن حياته الشخصية. 

حدث هذا فى مقاله «علامات على طريق طويل».. وهو المقال الذى نشره فى ١١ فبراير ١٩٧٢، وكان قد مر على دخوله الصحافة ثلاثون عامًا. 

بدأ هيكل مقاله، يقول: لا بد أن أعتذر منذ السطر الأول فى هذا الحديث عن ظلال مشاعر شخصية سوف تعكس نفسها عليه، ذلك أننى فى يوم له بالنسبة لى معنى خاص، فمعه أكون قد أكملت ثلاثين سنة فى خدمة المهنة العظيمة التى أسميتها ذات مرة مهنة «البحث عن المتاعب». 

 

ترك هيكل نفسه بعد هذا الاعتذار مستسلمًا لذكرياته. 

يقول: ما زلت حتى الآن أذكر شحنة الانفعالات التى دخلت بها إلى مبنى جريدة «الإجيبشيان جازيت» يوم ٨ فبراير ١٩٤٢- أسأل عن مكتب «سكوت واطسون» سكرتير تحريرها فى ذلك الوقت.

كان سكوت واطسون يحاضرنا فى مادة جمع الأخبار، وبعد إحدى محاضراته عرض على من يريد من طلبته تدريبًا عمليًا فى الصحافة أن يقابله فى «الإجيبشيان جازيت»، وكنت بين الذين ذهبوا إليه، وكان من بين دوافعى إلى الذهاب- إضافة إلى هوى المهنة وسحرها- إعجاب شديد بشخصية سكوت واطسون وأحاديثه التى ألهبت خيالنا عن الحرب الأهلية فى إسبانيا، وكان قد غطى وقائعها لجريدة «المانشستر جارديان» فيما أتذكر قبل قدومه إلى مصر والتحاقه بـ«الإجيبشيان جازيت».

هيكل 

كانت ذكريات الحرب الأهلية فى إسبانيا أريج الشوق فى أحلام كثيرين من شباب تلك الأيام، ولم تكن الحرب العالمية، التى راحت تطحن الدنيا كلها وتضرب القارات ببعضها، قد استطاعت بعد أن تمحو ذلك الحنين العارم إلى تلك الخيالات شبه المقدسة التى انبعثت ثم سحقت فى إسبانيا، قبل الحرب العالمية مباشرة.

كانت تلك الحرب فى أحلامنا صراعًا قاطعًا بين الخير والشر، وبين الديمقراطية والفاشستية، وبين الجماهير والقوى الرجعية، وحين تهاوت الجمهورية فى إسبانيا، مثخنة بالجراح مضرجة بالدم، فقد كان ذلك أمام عيوننا نذير شر مستطير ما لبث أن جاء فعلًا حين بدأت النازية تدوس بأقدامها الغليظة فوق أوروبا بخطى بربرية على دقات طبول وثنية! 

كان سكوت واطسون قد عاش التجربة، وكان نصف محاضراته عن حكاياتها، وذهبت لأعمل معه مشدودًا بالنصفين معًا: الأخبار وهى العصب فى مهنة الصحافة، والحرب الأهلية فى إسبانيا، وهى الحلم المضىء الذى اغتالته قوى الظلام فى إسبانيا.

وكانت تلك هى البداية لطريق طويل مشيت عليه ثلاثين عامًا إلى اليوم، من سن الثامنة عشرة إلى سن الثامنة والأربعين.

وربما بأريج الشوق القديم وجدت نفسى مشدودًا إلى الجرى كصحفى وراء الصراعات العنيفة، حيثما تفجر الصراع.

 

وجدت نفسى فى العلمين أتابع معركة الصحراء بعين مصرية، وكان ذلك اقتراح سكوت واطسون نفسه.

ثم انتقلت من «الإجيبشيان جازيت» إلى «آخر ساعة» بخطاب من رئيس تحريرها «هارولد إيرل» إلى الأستاذ «محمد التابعى»، وكان هارولد إيرل- بفرط حسن ظن لديه- يتصور أن مستقبلى لا بد أن يتحدد فى الصحافة العربية، وعندما انتقلت آخر ساعة إلى ملكية دار أخبار اليوم وجدتنى أنا الآخر هناك.

كان أريج الشوق القديم ما زال يبعث بندائه الغامض المثير، ويشدنى إلى الصراعات حيث تكون، هكذا وجدت نفسى مراسلًا متجولًا فى الشرق الأوسط مع تركيز خاص على فلسطين، التى بدأت النار تندلع على أرضها المقدسة غداة انطفاء نار الحرب العالمية الكبرى.

ثم جذبتنى الحرب الأهلية فى اليونان وتفاعلات البلقان المثيرة فى ذلك الوقت، ثم عدت إلى الشرق الأوسط مرة أخرى وراء الانقلابات والاغتيالات.

ثم شدتنى إيران فى بداية أزمة مصدق، ثم تركت الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لحرب كوريا ولحرب الهند الصينية الأولى.

هيكل 

إلى أن كان يوم تلقيت فيه خطابًا من كامل الشناوى وكانت خطابات ذلك الصديق والشاعر المرهف خيطًا من الحرير يصل بينى وبين الوطن دائمًا مهما كان البعد، وكان «كامل الشناوى» يقول لى فى خطابه: ماذا تفعل أنت هناك؟ تتابع أحداث أوطان أخرى ووطنك هنا على شفا أحداث أكبر.

وعدت مع الأيام التى ألغيت فيها المعاهدة الأبدية بين مصر وبريطانيا، تصورت أن بداية الاحتكاك سوف تكون مع القوة المصرية فى السودان فذهبت إلى الخرطوم.

ثم تركت العاصمة المثلثة إلى منطقة قناة السويس، متصورًا أن الصراع الجاد سوف يبدأ ضد القوات البريطانية هناك.

ثم تركت المنطقة إلى القاهرة قبل أيام من حريقها المشهور فشهدت ما جرى فيه، وبقيت فى القاهرة مع أنقاضها ومع أنقاض النظام الملكى الذى كان يتساقط يومًا بعد يوم.

كنت وسط الحياة السياسية فوق الأرض وتحتها، حتى التقيت بجمال عبدالناصر عصر يوم ١٨ يوليو ١٩٥٢، ولم نفترق ولم ينقطع الحوار بيننا حتى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ حين تلقى هو الدعوة للرحيل.

هيكل وعبد الناصر

وهذا الأسبوع ومع ذكريات البداية على الطريق الطويل، فقد ألح علىّ كثيرًا سؤال: أما يكفى لهذا الحد؟

لقد طفت بالدنيا كلها بحثًا عن المتاعب، والتقيت بقادة العصر من كل الأجناس وفى كل البلدان.. وعاصرت التجربة الكبرى فى مصر، ومن بؤرة العاصفة، وكتبت عن كل المشاكل والصراعات تحقيقات فى إثر تحقيقات.. بل إننى فى هذا الحديث الأسبوعى نشرت قرابة الألف مقال بانتظام.

ثم ماذا؟

ألا يجىء وقت على المحارب أن يغمد فيه سيفه، وعلى الكاتب أن يضع فيه قلمه؟

ألا يصدأ السيف؟.. وألا يفرغ المداد بعد ثلاثين سنة؟

هيكل 

ألم تجئ أجيال؟.. ألم تتغير أفكار؟.. ومهما قلنا بأن الشباب ليس بعدد السنين وإنما باستيعاب روح العصر.. أفلا يمكن أن تكون هذه ذريعة للتلكؤ، وادعاء ليس وراءه غير التمسك بالبقاء؟

وأعترف أن هذه لم تكن أول مرة يخطر على بالى فيها أن أخلى نفسى من العمل المنظم، وأخلو لنفسى أكتب عما رأيت وسمعت وتابعت على الطريق الطويل، حتى وإن كان ما أكتبه ثرثرة عما مضى من الوقائع والأيام.

لقد خطر ذلك ببالى ذات مرة سنة ١٩٦٧، وبعد معارك الأيام الستة، وبرغم أننى كتبت محذرًا- وبصراحة- من مهاوى الخطر قبل أن تبدأ المعارك، مما دعا البعض إلى اتهامى بالتشاؤم والانهزامية- فإننى كنت مثل كثيرين غيرى بعد المعركة ممن روعتهم صدمة النكسة فى حجمها.

وحين جاءت الوقفة الرائعة للجماهير العربية بالصمود، وحين جاءت الوقفة البطولية لجمال عبدالناصر وحيدًا وسط الأنقاض يحاول إعادة البناء- فلقد تحاملت على نفسى وقلت: «ليكن.. الذهاب الآن فرار.. وكنا نكتب بالأمل، فلنكتب الآن بالألم حتى تلتئم الجراح». 

لم يكرر الأستاذ هيكل فيما أعتقد الكتابة عن نفسه بهذه الطريقة بعد ذلك، رغم أنه وفى كل ما كتب كان ينطلق من نفسه ويعود إليها، فلم يكن لديه مركز آخر إلا نفسه.. ولم يكن هناك مدار يدور حوله إلا مداره.

كان السؤال عن مذكرات هيكل ملحًا ومبكرًا جدًا. 

فى نوفمبر من العام ١٩٨٧، كان يحاوره الكاتب الراحل رجب البنا، وقد نشرت هذه الحوارات ضمن دراسة مهمة عن هيكل صدرت عن دار المعارف فى العام ٢٠٠٤، بعنوان «هيكل بين الصحافة والسياسة». 

سأله رجب البنا: متى ستنشر مذكراتك؟ 

أجاب هيكل: إن أوراقى جاهزة، وكتابتها لن تستغرق وقتًا طويلًا، فهى مُرتبة ومنظمة، ويمكن لأولادى أن ينشروها كما هى، وإن كنت أفكر فى مشكلة، وهى: كيف أتعرض بالحقيقة لأشخاص ما زالوا أحياء؟ والأمانة تقتضى أن أقول الحق ولا شىء غير الحق، وهكذا أفعل دائمًا وأُلزم نفسى به. 

يمكنك أن تفهم من ذلك أن هيكل حتى العام ١٩٨٧ كان قد انتهى من كتابة أوراق حياته، وأنه يمكن نشرها على حالتها، وحتى لو لم يتمكن هو من مهمة النشر، فيمكن لأولاده أن يفعلوها، لكن ما جرى أنه لم ينشر شيئًا فى حياته ولا أولاده نشروا شيئًا بعد وفاته. 

فى أواخر التسعينيات كان هيكل ضيفًا على صالون إحسان عبدالقدوس بمؤسسة روزاليوسف، ودون أن يسأله أحد، أو يُعقِّب على كلامه، قال إنه سيختم مشواره الصحفى بكتاب عن حصاد العمر. مضى هذا الإعلان دون ضجيج، وربما دون أن يلتفت إليه أحد. 

لكن مذكرات هيكل ظلت هاجسًا لدى كل من يحيطون به أو يتحدثون معه.

فى حوارها الطويل الذى أجرته سناء البيسى مع هيكل، ونشر على حلقات فى مجلة «نصف الدنيا»، قادت الكاتبة الكبيرة كاتبها وأستاذها إلى أن يتحدث. 

قال لها: من يقول الحقيقة كاملة تقفز أمامه علامات استفهام كثيرة، لقد حاول لويس عوض وتوفيق الحكيم أن يقتربا من الحقيقة بطريقة ما، أو حتى بشكل أجريا عليه بعض التحسين، ومع ذلك لم يقبل الناس هذه الحقيقة. 

وضع هيكل يده على الوجع الساكن فى قلب كتابة المذكرات، قال: الناس تترك كل ما قدمه كاتب ومفكر ومبدع مثل الدكتور لويس عوض، وتترك كل مواقفه السياسية ومعاركه الفكرية، ولا يلفت نظرها فى مذكراته سوى متاعبه العائلية مع أبيه أو أخيه، وتوقف الذين قرأوا سيرة الدكتورة لطيفة الزيات طويلًا عند اعترافها بأن سر تأخر طلاقها من الدكتور رشاد رشدى، الذى اختلفت معه سياسيًا وفكريًا، هو حاجتها الخاصة جدًا إليه، إن هذا المشهد الذى لا يحظى بأى قيمة إذا ما قورن بباقى المشاهد قد انتقل من الخلفية إلى الصدارة فى عقل كل من قرأ المذكرات. 

حاولت سناء البيسى أن تحصل من هيكل على سبق بلغة الصحافة، لكنه وضع نقطة فى آخر السطر عندما قال لها: بالنسبة لكتابة سيرتى الذاتية ما زال لدىّ بعض الوقت، وإن كنت أدرك أن ما تبقى منه ليس كثيرًا. 

وقتها كان رأيه، وهو الرأى الذى ظل ملازمًا له طوال حياته، أن المذكرات لا تُملى، بل لا بد أن تُكتب كنص يقف فى منتصف المسافة بين أدب الاعتراف والصياغة الأدبية الجميلة، وهى تحتاج إلى تخطيط محكم لأن كتابة الاعتراف أو كتابة السيرة الذاتية تختلف عن أى كتابة أخرى. 

بعد سنوات، وفى حوار مع عادل حمودة نشر نصه فى كتاب «هيكل.. الحياة- الحرب- الحب»، تحدث هيكل عن أوراقه التى يدون فيها حياته. 

قال: أتمنى أن أعطى كل ما أملك من أوراق إلى أى جهة تضيفها إلى تاريخ مصر، إننى أسجل ما بين ١٠- ١٠٠ ورقة يوميًا، وبعض ما سجلته شديد الأهمية، مثل مناقشتى مع وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر بعد حرب أكتوبر، وهو فى ٦١ صفحة.

إن هذه الأوراق تجربة فى تاريخ مصر، فأنا لدىّ الكثير، وأعرف الكثير، وكنت أتمنى أن أعطيها إلى جامعة مصرية لتستفيد من الذى كتبته أو الذى رأيته أو الذى أتيح لى أن أطلع عليه، لكن ذلك لا بد أن يسبقه قانون يحمى مثل هذه الأوراق، ويحترم كلام أصحابها، ويلزم بعد الكشف عنها إلا فى الوقت المحدد الذى يوصون به. 

عن نفسى سأترك هذه الأوراق إلى أبنائى مع تحديد المواعيد المناسبة لكشف ما فيها، خاصة أننى أملك، إلى جانب أوراقى، وثائق وشهادات أخرى وضعها أصحابها أمانة فى عنقى، وحددوا مواعيد لنشرها، يصعب أن أكون موجودًا فيها. 

على سبيل المثال حسن باشا يوسف، وكيل الديوان الملكى، تحدث معى كثيرًا فى بيتى، وسجلت شهادته على ٣٢ ساعة، كانت مجمل أهم ما جرى فى عصر فاروق، لكنه طلب منى عدم إذاعتها إلا بعد وفاته ووفاة زوجته بـ٢٠ سنة، وأنا لن أكون موجودًا ساعتها. 

وأيضًا محمود فوزى، إنه شخصية لا أحد يعرف عنها بما فيه الكفاية، لكن فى محاولة للاستفادة من تجربته سجلت معه بصراحة ٤٠ ساعة، أنا مؤتمن عليها، ولا بد أن تصل إلى الناس بأمانة. 

وهذا ما حدث أيضًا مع سفيرنا فى لندن، قبل قيام الثورة مباشرة، عبدالفتاح عمرو. 

يعترف هيكل: إن وثائق هؤلاء وغيرهم ليست ملكى، وإنما جزء من تاريخ مصر، وقد أرسلتها إلى الخارج تخوفًا عليها فى وقت كان فيه الرئيس السادات يتربص بى، إن كل وثائقى وأوراقى فى الخارج، وعندما أحتاج منها شيئًا أصوره وأستعمل الصورة. 

هيكل والسادات 

أنا لدىّ من ٦٠٠ إلى ٧٠٠ ألف وثيقة أحضرتها إلى الأهرام من وثائق الدولة فى بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل، وأحضرت لنفسى نسخة منها، وربع ما أملك من وثائق مصرية. 

ويضع هيكل ما يعتقد أنه حدود مهمة، يقول: لا بد أن نفرق بين أوراق رئيس الدولة وأوراق الدولة. 

أوراق الدولة موجودة عند جهات الدولة المختلفة الخارجية.. المخابرات.. المباحث، ويمكن أن توجد نسخة منها عند رئيس الدولة. 

أما أوراق رئيس الدولة فهى التى يكتبها بخط يده، وأنا كنت غاوى أجلس بجانب جمال عبدالناصر حتى فى مؤتمرات القمة، وأجمع الأوراق المتبادلة بينه وبين الملوك والرؤساء، ولم يكن يمانع فى ذلك. 

لقد نقلوا إلى بيت أنور السادات فى الجيزة الوثائق المتعلقة بوقائع ١٤ مايو وما سبقها، وهذه هى التى اطلعت عليها عنده وتم تصويرها بكاميرا زميلى فى الأهرام محمد يوسف. 

وأما أن الأرشيف الذى كان موجودًا فى بيت عبدالناصر قد نقله، فهذا طبيعى لأن أوراق سلفه كان يجب أن تتبعه إلى حيث يعمل، فإذا أمر بنقلها فهذا حقه، وأنا أعلم يقينًا أن هذه الملفات ذهبت إلى قصر عابدين، وأعلم يقينًا أن ما أرسل منها إلى بيت الرئيس السادات كان فقط ما اتصل بتصرفات عدد من المسئولين قبل ١٤ مايو، ولقد حصلت بإذنه على بعضها ونشرته أيامها بالفعل، كما أن بعضه عرض أثناء نظر قضية مراكز القوى. 

مرة ثانية يشير هيكل إلى أن هناك ما لديه ويمكن لأولاده أن يباشروا نشره بعد وفاته، ورغم أنه رحل منذ سنوات، إلا أن أحدًا من أسرته لم يتحدث عن شىء ولو من طرف خفى. 

فى يونيو ١٩٩٤ كان خالد عبدالهادى يتحدث إلى الأستاذ هيكل. 

وقبل أن تسمع ما دار بينهما من المهم أن تعرف أولًا من هو خالد عبدالهادى. 

بعد وفاة هيكل فى فبراير ٢٠١٦ بشهور قليلة، وفى مطلع العام ٢٠١٧، صدر كتاب «هيكل.. لمحات إنسانية» لخالد عبدالهادى، الذى لم يكن معروفًا إلا فى دوائر ضيقة تحيط بهيكل، وكان ينظر هؤلاء إليه على أنه الصندوق الأسود للأستاذ. 

فى الكتاب لا تستطيع أن تمسك بمفاتيح العلاقة بينهما، ربما يكون إخلاصه لهيكل وحرصه على سيرته جعلاه يتوارى خلفه، فلا يهتم بنفسه. 

فى فبراير ٢٠١٩، وفى الذكرى الثالثة لوفاة هيكل، صدر عدد خاص من مجلة «الهلال»، كتب فيه خالد عبدالهادى مقالًا مطولًا عن هيكل، وقبل أن يدخل إليه عرّف القراء به. 

يقول خالد عبدالهادى: كنت ما زلت شابًا أدرس فى مدينة الكويت التى عشت فيها فترة من بداية حياتى عندما وقعت عينى على كتب ومقالات الأستاذ هيكل، يومها ترسخ فى ذهنى أننى أمام فيلسوف وليس كاتبًا مؤرخًا وليس صحفيًا مفكرًا وليس محللًا، ومنذ أن ترسخ هذ التصور فى عقلى بدأت رحلة البحث عنه حرفيًا وشخصيًا. 

وبالفعل جمعت كل كتبه وقرأتها بنهم وعشق لا يوصف، ثم الخطوة التالية أجريت مكالمة لمكتبه بالقاهرة، وأنا ما زلت شابًا وقتها، طالبًا الجلوس إليه، وتعددت محاولاتى حتى حدد مكتبه لى موعدًا بالفعل. 

بعد هذا اللقاء الأول، تعددت اللقاءات والاتصالات الهاتفية بيننا، وأصبحت بعدها من عشاق ومحبى هذا الكاتب الفذ الذى تعلمت من حرفه، واستوعبت السياسة من فكره، وأحببت الشعر من حبه للشعراء، وعشقت القصة والرواية من حبه لهما، وامتدت هذه المعرفة سنوات متعددة حتى جاء موعده مع القدر ورحل إلى خالقه.

سأعود بكم إلى العام ١٩٩٤، يقول خالد عبدالهادى عما جرى. 

فى الساعة السابعة مساء، أمام الأستاذ هيكل فى مكتبه، قادنى إلى الشرفة الملحقة فى المكتب بعد بعض الأسئلة، وأنا أريد أن أعرف كل تفاصيل حياته وخارطة أيامه وغيرها من الأمور، سألته عن موعد مذكراته؟ 

نظر إلىّ فى دهشة والابتسامة ترافقه وقال لى: أنت مستعجل على موتى؟ 

تلعثمت وهو استمر رقيقًا فى كلامه: آخر ما سوف أكتبه هو مذكراتى. 

تساءلت: لكن الجميع يعرف أنك لا تخلد للنوم قبل أن تدون ما جرى فى نهارك، وعليه فالمادة الأصلية للعمل موجودة، ولا تحتاج إلا لبعض الصياغة، وتوضيح من هنا، وتنويه من هناك. 

أكد ما قلته، وتابعت متسائلًا: لا شك أنك اخترات عنوانًا لما تدونه من تفاصيل حياتك اليومية؟

لمعت عيناه وشد نفسًا من سيجاره الكوبى الفاخر، وقال: نعم الأوراق موجودة، لكن ليس بالتبسيط الذى طرحته، فهناك جهد وعمل وفكرة، ومن ثم تصورات لما سوف يُنشر منها. 

توقف لحظة وأشعل من علبة كبريت كبيرة عودًا من الثقاب، بعد أن أنطفأ سيجاره: نعم لقد وقع اختيارى على عدة عناوين لتلك المذكرات- قاطع نفسه- وفى اللحظة الأخيرة قد ألجأ لعنوان آخر، من بين هذه العناوين «فى الخريف يتساقط أوراق الشجر»... أليس زمان كتابة اليوميات والمذكرات هو خريف العمر؟

وتابع قائلًا: لكنى وجدته عنوانًا أدبيًا، فأنا صحفى ومخبر صحفى وكاتب مقال سياسى، وقد استبعدته، واخترت عنوانًا آخر: كتابات على الماء، أليس ذلك ما يفعل غالبية مَن جرب كتابة تجربته؟ كتابات على الماء تتسع مع الموج والريح أو تغرقها العاصفة والفيضان. 

ثم كان أن ألتقيته فى مكتبه صباح يوم خريفى من شهر نوفمبر ٢٠٠١، وكنت برفقة الأديب يوسف القعيد، وقلت له إن السنة المقبلة ستكون الذكرى الستين لدخوله شارع الصحافة، ولا بد من احتفالية لتلك المناسبة.

قال هو إنها ستكون مناسبة ليعلن اعتزاله، وإن ستين عامًا هى حياة إنسان ولِد وتعلم وعمل وتزوج وأنجب ثم تقاعد، وأضاف: أنا أعمل منذ ستين عامًا، أفلا يحق لىّ أن أتوارى بعيدًا؟ 

وهنا قلت له: إذن اقترب موعد نشر مذكراتك، وتدخل الأستاذ يوسف القعيد قائلًا: إن المذكرات ستكون تكملة لكتاب «بين الصحافة والسياسة»، وهى المرة الأولى التى يستعرض فيها الأستاذ هيكل بعضًا من سيرته فى كتاب. 

من جانبى ذكّرته بمقاله الذى كتبه يوم ١١ فبراير ١٩٧٢ بعنوان «علامات على طريق طويل»، وأنها كانت المرة الأولى التى يستذكر شيئًا من سيرته، وربما عنوان المقال يصلح ليكون عنوانًا لمذكراته العتيدة، من تجواله الدءوب بحثًا عن المتاعب، ومقابلاته مع قادة العصر من سياسيين وعسكريين واقتصاديين ومثقفين، ومعاصرته لأحداث مصر والعالم العربى، ومراقبته عن كثب لما يدور ويجرى من تحولات على مستوى الألم، وهى فعلًا علامات على طريق طويل وممتد. 

لم يعلق الأستاذ من جانبه، وإن أكد بأنه يفكر بطريقة ما فى نشر مذكراته، ولكن تأثير ما يجرى من وقائع وتطورات على مستوى الإقليم والعالم دائمًا تشده إلى تيارها الغلاب، ثم تساءل: هل هناك فعلًا من سيهتم ويقرأ يوميات رجل ينتمى لعصر بعيد، ولزمن شحب، أقصد الشباب من مصر والعالم العربى؟ 

وأكدنا له بأن كتبه حتى هذه اللحظة هى دائمًا فى مقدمة الكتب الأكثر مبيعًا والأكثر طلبًا ومن جميع الفئات العمرية لجمهور القراء.

فى فبراير ٢٠١٨ كان كاتب سيرة المشاهير الكاتب الصحفى إبراهيم عبدالعزيز يتحدث معى عن امتلاكه أسرارًا لم تنشر من قبل عن الأستاذ محمد حسنين هيكل، اتفقنا على أن يكتب لنا تقريرًا بما لديه. 

عندما كنت أراجع التقرير اكتشفت أن هناك ما يخص مذكرات الأستاذ هيكل. 

فقد دعا هيكل، إبراهيم عبدالعزيز- الذى كان يجالسه على هامش إهداء أحد كتبه للكاتب الكبير- ليكتب فى مجلة «وجهات نظر» التى كان يشرف هيكل عليها بنفسه، بل كان يترأس بعض اجتماعاتها. 

سأل إبراهيم عبدالعزيز هيكل: لماذا لم تكتب مذكراتك يا أستاذ؟ 

فأجابه بأنه حينما يفكر فى ذلك فسيفضل أن يكون كاتبها صحفيًا من خارج مؤسسة الأهرام. 

تفاءلت خيرًا بأن هذه كانت رغبة هيكل، أن يكتب سيرته صحفى من خارج الأهرام. 

يكشف إبراهيم عبدالعزيز جانبًا من جوانب شخصية الأستاذ هيكل، يقول: تنبأت بأن هيكل لن يكتب سيرته الذاتية أبدًا، وهو ما حدث فعلًا، فقد مات دون أن يكتب سيرته، وكان يمنع كل المتصلين به من الحديث عنه فى أى مناسبة من المناسبات. 

كانت جريدة القاهرة، التى تصدرها وزارة الثقافة أثناء رئاسة تحرير الكاتب الكبير صلاح عيسى لها، قد نشرت تنويهات عن ملف يجرى الإعداد له بمناسبة العيد الثمانين لميلاد هيكل، تواصل سكرتيره منير عساف بإبراهيم عبدالعزيز ليعرف التفاصيل، ومَن هم المتحدثون وكان من بينهم سائقه الخاص. 

يكمل إبراهيم عبدالعزيز روايته: يبدو أن الأستاذ هيكل كان منزعجًا، فقد كان لا يرغب فى أن يتحدث عنه أحد دون أن يراجع ما قيل قبل النشر. 

واحد من المقربين بشدة من الأستاذ هيكل، وهو الروائى الكبير يوسف القعيد، كان ولا يزال مصرًا على أن الأستاذ هيكل كتب مذكراته بالفعل. 

كان يوسف القعيد يتحدث إلى جريدة «عمان» فى مايو ٢٠١٤، عبر حوار مطول، ومن بين ما قاله إن: الأستاذ هيكل يتحصن وراء نفى أنه يفكر فى كتابة مذكراته، وإن كنت أعتقد إما أنه كتبها أو يكتبها أو سيكتبها، وهو يتكتم على هذا الأمر تمامًا، وأنا مع تكتمه. 

ينتقل بنا القعيد إلى ما يمكن اعتباره مراوغة من هيكل، يقول: كنت كلما سألته عن المذكرات اكتفى بالصمت، لا ينفى ولا يؤكد.

بعد سنوات من هذا الحوار، وفى العام ٢٠١٥، كتب يوسف القعيد فى الأهرام أن لديه يقينًا بأن الأستاذ هيكل دوّن مذكراته فعلًا، لكنه رَكن ظهره على حائط الاحتمالات فقال: هذا اليقين لا تسنده معلومات محددة، لكنه إحساس بداخلى أو هاجس فى عقلى، أتصور أنه صحيح، أما ما هو أكثر من هذا، فلا يوجد لدىّ ما يمكن أقوله. 

وقبل أن يغادر يوسف القعيد جدار الشك، قال: أتصور أنه كتبها وأودعها فى مكان ما من هذا العالم. 

فى العام ٢٠١٨ صدر كتاب «أحاديث برقاش» لعبدالله السناوى الذى كان أكثر اقترابًا من هيكل خلال سنواته الأخيرة، وفى هذا الكتاب نقرأ- كما يصف عبدالله مستخدمًا روح هيكل وصياغاته- كانت وديعته فى كتبه وإرثه فى مدرسته. 

أما عن المذكرات فيقول عبدالله: لم يكتب سيرة ذاتية، ولا كان واردًا فى تفكيره أن يكتبها، فكل ما أراد أن يتركه أشار إليه فى كتاباته وكتبه، أو أودعه على شرائط مسجلة بثتها قناة الجزيرة فى برنامجه «سيرة حياة»، ونصوصها فُرغت على ورق وضُبطت لتكون صالحة للنشر وقد راجعها بنفسه. 

ويضيف: على عكس ما اعتقد كثيرون أنه سوف يُخلف وراءه سيرة مكتوبة بأسلوبه لجمال عبدالناصر، لأنه كان على يقين طوال الوقت أن هناك قضية واحدة تستحق أن تترك وديعة عند أصحاب الحق فى المستقبل، وهى أن يعرفوا ماذا جرى فى مصر وحولها وأين كانت معاركها ولماذا يراد أن تتكرس فيها ثقافة الهزيمة؟ 

الغالب فيما قاله هيكل، وما قاله الذين اقتربوا منهو أنه لم يترك وراءه مذكرات مرتبة ومنظمة، كتبها بنفسه، أودعها ما يريده، وحجب عنها ما لا يرغب فيه، لكننى ورغم ذلك لا يمكننى أن أجزم بشىء، ما أعرفه فقط أن كل ما كان يريد أن يقوله هيكل عن حياته، قاله فى كتبه وحواراته. 

الكاتب الكبير صنع حياته، وكَتب روايته بنفسه، وهى رواية من السهل أن تشكك فيها، لكنك فى النهاية لا تملك إلا الاستسلام لها، على الأقل لأنك لا تملك ما تجرح به شهادته على نفسه.