رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفكر صلاح السروي: لم يعد من الممكن الانغلاق فى مواجهة العولمة (حوار)

دكتور صلاح السروي
دكتور صلاح السروي مع الشاعر زين العابدين فؤاد

لم يعد من الممكن فى مواجهة العولمة الانغلاق على الذات وقفل أبواب الفضائيات، وليس أمامنا سوى الانخراط والتفاعل مع ما تطرحه هذه الأدوات الجديدة، ولكن بشرط أساسى، ألا وهو أن يكون هذا التفاعل "نديا"، بمعنى أنه قائم على الأخذ والعطاء معا، دون إحساس بالدونية أو الاستلاب.

( لم يتعرف المثقف العربى على النظرية البنيوية إلا فى عام 1963 عندما تحدث المفكر محمود أمين العالم عن نتاجات الناقد الفرنسى من أصل رومانى (لوسيان جولدمان) والتى عرفت باسم "البنيوية التكوينية"

( ظهر من بين أبناء جيلى، وأقصد جيل السبعينيات الكثير من الأسماء المهمة والمؤثرة على مختلف الأصعدة، وبخاصة على صعيد الدفاع عن الهوية الثقافية الوطنية.

دكتور صلاح السروي أستاذ الأدب العربي بجامعة حلوان والناقد التفكيكي الذي تأثر بأكثر من مدرسة نقدية فكان له الفرادة في الطرح والمداخلات التفسيرية فيما يخص الفكر والمعرفة والآداب، تقابلنا منذ أيام فخرج عن عزلته المقصودة وقرر التقرب من مسارات الكتابة، بعد بعده المتعمد عن الشللية وجيتوهات الثقافة، ليرصد علاقته بعالمه التنظيري بالبحت والجمالي وهذا عبر اشتباكه مع عشرات بل مئات النصوص العالمية والمصرية العربية فكان هذا الحوار الذي خصصه لـ"الدستور"، وإلى نص الحوار..

سألته بداية:

ـ بعد أن طرحت ماهية البنيوية والتفكيك، كيف ترى علاقتنا المعرفية بما طرأ من تجليات لهذه المصطلحات مصريا وعربيا على أرض الحقول الثقافية والإبداعية؟

( لم يتعرف المثقف العربى على النظرية البنيوية إلا فى عام 1963 عندما تحدث المفكر محمود أمين العالم عن نتاجات الناقد الفرنسى من أصل رومانى (لوسيان جولدمان) والتى عرفت باسم "البنيوية التكوينية"، حيث أسماها محمود العالم آنذاك باسم "الهيكلية"، وهى تسمية تعد ترجمة حرفية للكلمة الإنجليزية structuralism ولها نظير مشابه بالفرنسية، وتعنى الهيكل أو البناء، ثم أطلق عليها د. صلاح فضل اسم "البنائية" فى كتابه المعنون ب"نظرية البنائية فى النقد الأدبى" عام 1978. بيد أن المصطلح لم يستقر  باسم البنيوية إلا فى مطلع الثمانينيات مع صدور مجلة فصول تحت رئاسة د. عز الدين اسماعيل. وأظن أن الباحثين والمترجمين المغاربة (أى المنتسبين الى بلدان المغرب العربى) كان لهم دور كبير فى استقرار المصطلح على هذا النحو، سواء من حيث التسمية، أو الطرح النظرى، أو الممارسة التطبيقية.

ولقد جاء تعاطى النقاد العرب مع هذا المنهج متراوحا على نحو بالغ التباين، من حيث دقة الفهم والاستيعاب والوعى الجمالى بطبيعة الأدب. فوجدنا نقادا يطرحون رؤى نقدية تنتمى الى البنيوية من خلال الاستشهاد بمقولات أعلامها وذكر مصطلحاتها بأكثر من الحديث عن العمل الأدبى موضع التحليل، بحد ذاته. حتى انك ليكاد المرء أن يظن بأن الناقد قد اتخذ من مناقشة العمل الأدبى فرصة لاستعراض محصوله من المعرفة بهذه المقولات والمصطلحات. ومنهم من أطلق عنوان: "دراسة بنيوية" أو "تشريحية"، بينما هو يقصد شيئا آخر وتأتى معالجته لا علاقة لها بهذا أو بذاك، اللهم الا بعض الأسهم والمعادلات الرياضية، التى تزيد الدرس ألغازا فوق الغاز، بل أن البعض فهم "التشريح" على أنه مجرد تحليل للنص.

بيد أن هناك من النقاد الجادين ممن قدموا دراسات بنيوية محترمة ومؤثرة، مثل د. خالدة سعيد، ود. يمنى العيد، من لبنان. ود. حسين حمودة، ود. سيزاقاسم ود. أمينة رشيد، من مصر. و د. محمد مفتاح من المغرب، ود. عبدالسلام المسدى من تونس .. وغيرهم كثيرون.

أما فيما يتعلق بالتفكيكية فلم يظهر كثيرون ممن يعلنون الانتماء اليها باعتبارها وجهة منهجية فى النقد الأدبى، اللهم الا بعض الأسماء القليلة مثل كمال أبوديب وعبدالله الغذامى. بيد أن المناهج الناتجة عن اتجاهات "ما بعد الحداثة" و"التفكيكية"، مثل "النقد الثقافى" و"مابعد الاستعمار" و"النقد النسوى".. الخ، قد فازت بقدر لابأس به من الاهتمام، والغريب أن من التحقوا بتلك الاتجاهات "ما بعد الحداثية"، بحماس بالغ، هم أنفسهم، ممن كانوا قد التحقوا بالبنيوية بالحماس ذاته، ولكن بدون أن يوضحوا لنا سبب مغادرتهم للنظرية السابقة، أو يقدموا نقدا مقبولا لها. 

وفى الاجمال فان النقد البنيوى وما بعد البنيوى لا يزال نقدا أكاديميا نخبويا، لا يفهمه، ولا يتقن البحث فيه، الا القليل من الدارسين والباحثين. بينما يتراجع النقد، باعتباره نشاطا معرفيا، بصفة عامة، وما يتوافر منه، فى الأغلب، لا يتعدى كونه نقدا انطباعيا وموضوعاتيا، أى لا يقدم سوى تعليقات جزئية على بعض مفردات ومكونات العمل الأدبى. 

وأنا أعزو هذا الانزواء للنظريات الحداثية وما بعد الحداثية الى تراجع التعليم وتردى الثقافة، بصفة عامة، خاصة بعد سنوات السبعينيات وما صاحبها من هيمنة لقيم وثقافة البداوة المختلطة بثقافة الربح والاستهلاك، فضلا عن هيمنة فكرة عبادة الماضى التى جاءت مع انتشار الاتجاهات السلفية الوهابية فى مصر.

 

-  تحدثت في ندوة كتاب "الفيس بوك" للكاتب شوقي عقل عن ضرورة وضع سياسة ثقافية مصرية فاعلة فليتك توضح رؤيتك من منظور الناقد والمفكر والجامعي؟

 (أعتقد أن ادارة الثقافة، شأنها شأن كل نشاط مجتمعى عام، لا يمكن تركها للمبادرات الطوعية والابداعات الفردية، على الأهمية القصوى لذلك بالطبع، خاصة فيما ينعلق بالفكر والابداع. لكن لابد من وجود رؤية شاملة ومتكاملة للأوضاع الثقافية والمعرفية فى الداخل والخارج، وأن تضع تلك الرؤية فى اعتبارها مجمل التحديات الثقافية التى يجابهها العقل المصرى، ومجموعة السبل القادرة على تدعيم قدرته على مواجهة هذه التحديات. وأتصور أن هذه التحديات يمكن إجمالها فى عنصرين رئيسيين: 

الأول، خارجى: وهو تحدى العولمة وثورة الاتصالات والسماوات المفتوحة، وما يحمله ذلك من تهديدات لمفاهيم "الهوية" الوطنية والانتماء الوطنى، ومن محاولات لطرح حاجات ثقافية أو معرفية لا تطلبها اللحظة التاريخية المعاشة فى مصر. وحرف بوصلة التفكير لدى فئات المجتمع نحو اتجاهات خرافية أو مشوهة أو انتحارية أو منافية للأخلاق الانسانية .. الى غير ذلك من مكونات ومواد الفضاء الإلكترونى التى لا نهاية لها.

الثانى، داخلى: وهو ينقسم بدوره إلى قسمين:

  • الخواء المعرفى والأمية الثقافية والجمود الفكرى، وهيمنة الخرافة، والتواكل، ومعاداة العقل والعلم، والخضوع للعادات والتقاليد التى تجاوزها الزمن، كعادات : الثأر، وختان الاناث، والاعتداد بالعائلة والقبيلة، وامتهان المرأة .. الخ. 
  • تحدى التطرف والارهاب الذى يرتكز على المقدس لتسييد قيم التقليد والجمود العقلى، وكراهية الآخر، والتسليم الساذج، والقدرية، ومعاداة العلم والعقل .. الخ. وما يؤدى اليه من تدمير القدرة على التطور المعرفى والمجتمعى والتفكير النقدى، والمحاسبة العقلانية واحترام الآخر، والاقرار بحقيقة التعدد والاختلاف .. الخ .

وكلا التحديين، بتفريعاتهما، لا يمكن مجابهته الا بسياسة ثقافية تقوم على تفعيل كل قنوات البث الثقافى وتنشيط طاقة القرائح المبدعة والمفكرة نحو تفعيل الأداتين والملكتين الأساسيتين التاليتين: 

  1. ملكة النقد.
  2. ملكة الابداع. 

فلم يعد من الممكن فى مواجهة العولمة الانغلاق على الذات وقفل أبواب الفضائيات، وليس أمامنا سوى الانخراط والتفاعل مع ما تطرحه هذه الأدوات الجديدة، ولكن بشرط أساسى، ألا وهو أن يكون هذا التفاعل "نديا"، بمعنى أنه قائم على الأخذ والعطاء معا، دون احساس بالدونية أو الاستلاب. وهذا الأخذ لا بد أن يكون مدروسا ومعايرا بمعيار العلم والعقل والوعى بما يمكن قبوله وما ينبغى نقده ورفضه ومحاربته. وهذا لن يتم الا بتفعيل الملكة النقدية القادرة على التمحيص والتحليل ورؤية مايكمن وراء أى دعوى من الدعوات أو فكرة من الأفكار، المطروحة. 

كما أنه لا يمكن مجابهة هذا الطوفان من الأفكار والرؤى بينما العقل المصرى فارغ وبسيط، ولا يمتلك أى مناعة معرفية وثقافية ناجعة. فأى فراغ سيتم ملؤه على نحو أو آخر. وان لم تقم المكونات الابداعية والفكرية المنتمية لقيم الثقافة الانسانية والوطنية بملئه، سيقوم الآخرون بهذا الملء، على النحو الذى يخدم مصالحهم. وهنا يأتى دور تشجيع الابداع وحفز الانتاج الفكرى والثقافى والعلمى الوطنى، بكل أبعاده. مع ضرورة ايلاء الاعتبار الى شروط ذلك الابداع من رفع لسقف حريات التفكير والتعبير والاعتقاد. وضرورة وجود قدر فاعل من الرعاية من قبل وسائل الاعلام والدولة بكل أجهزتها، لهذا الابداع، بكل السبل والوسائل الممكنة.

كما أن هذا "النقد" وذاك "الابداع"، بما يحتويان عليه، من تحكيم لقيم العقل والعلم والرقى النفسى والروحى والانطلاق الخيالى والمعرفى، هما وحدهما القادران على مجابهة القيم والعادات البالية وكذلك الأفكار والمفاهيم الرجعية المتطرفة.   

 

ـ عن فراغ الساحة الثقافية من الرؤى النقدية الفاعلة والمحفزة للخيال، حدثنا عن تلك المعوقات التي تحجب الرؤى النقدية الجادة عن الجماهير؟

الاجابة:

( لقد كان لغياب تدريس الفلسفة وتحريمها، فى بعض الأحيان، واتهامها الدائم فى وسائل الاعلام بأنها الكلام الذى لا يعنى شيئا، والسخرية من المثقفين فى المسرحيات والأفلام واتهامهم بالتفلسف !! ، دور كبير فى انصراف الناس عن الفلسفة بل وكراهيتها ان لم يكن تحريمها. وهو ما أدى الى اجداب العقل المصرى وتراجعه المشين خلال الأربعين عاما الماضية. فالفلسفة هى علم انتاج المقولات والرؤى الكلية التى تحاول فهم العالم والمجتمع والانسان، وصيرورة الوجود والحياة. وهى عمل عقلى فكرى، صرف، يقوم على استخدام قوانين المنطق والتفكير السليم، ودراستها تعد تدريبا بالغ الأهمية على انتاج الأفكار والمفاهيم. وغيابها لابد أن يؤدى، بصورة حتمية، الى العقم العقلى والمعرفى والابداعى. واذا عرفنا أن كل المدارس النقدية تنطلق من أسس نظرية فلسفية صريحة، فانه يكون من المفهوم، تماما، أسباب غياب الرؤى النقدية والاسهام فى التطورات النظرية الباذخة التى تنتاب كل الحقول المعرفية فيما يختص بالعلوم الانسانية، والنقد الأدبى فى القلب منها.

هذا فضلا عن ضعف التحصيل العلمى لبعض النقاد المعاصرين (هناك نقاد كبار، لا شك فى ذلك، ولكن بأعداد محدودة للغاية)، اضافة الى انعدام الفائدة المادية من ممارسة النقد الأدبى، فهو تقريبا عمل تطوعى، (اذا لم تكن موظفا فى جهة تدفع لك راتبك، باعتبارك ناقدا) فى ظروف يعانى فيها معظم المثقفين من الفقر وضعف الموارد المالية. وهنا يتم العزوف عن ممارسة النقد وانتاج المعرفة النقدية، شأنها فى ذلك شأن كل مناحى المعرفة الأخرى. خاصة لو علمنا أن الناقد يحتاج الى عمر كامل من التحصيل العلمى فى كافة مجالات العلوم الانسانية، فضلا عن تاريخ الأدب المحلى والعالمى وعيون هذا الأدب، وجماليات أنواعه المختلفة، ومدارس الابداع فى كل نوع أدبى على حدة، ومناهج التناول النقدى القادرة على تقديم مقاربة ناجعة له، والفروق بينها .. الخ. فالنقد الأدبى عملية معرفية وعقلية وعلمية وتذوقية بالغة التعقيد والتركيب. وهذا كله يحتاج الى تكوين ودعم ورعاية.

 

- دكتور صلاح السروي المفكر والناقد الأدبي الأكاديمي والخلاق، أين أنت من الساحة الثقافية الإبداعية بحراكك الجمالي الفاعل، وهل للشللية دورا ما في حجب كتاباتك عن محبيك أو متابعيك؟

( أنا متواجد بالشكل الذى تسمح به إمكانياتى وظروفى، سواء من حيث الوقت أوالجهد. أعمل فى الجامعة وأنخرط فى الحياة الأدبية والثقافية. أكتب المقالات وأصدر الكتب وأحضر الندوات والمؤتمرات. 

وربما كانت هناك معايير أو اعتبارات تدار من خلالها عملية التقديم أو التقييم لهذا الناقد أو ذاك المبدع، فى هذه المنصة الاعلامية، أو تلك الهيئة الثقافية، ومن الوارد أن تتنوع هذه المعايير وتتعدد، فيمكن أن تكون المصلحة الشخصية، أو مهارات ادارة العلاقات العامة، أو الاعتبارات السياسية أو أى اعتبار آخر. ولكن لدى ايمان راسخ ولا يتزعزع، ألا وهو أن العمل الجيد يفرض نفسه ولو بعد حين وأن الانتاج المحترم والحقيقى هو الشئ الوحيد الباقى من أى منتج علم أوفكر أو إبداع. ولا آبه كثيرا بأننى لم أحصل على جائزة هنا أو تكريم هناك. فجائزتى الحقيقية هى كتبى وطلابى. 

 

ـ عن الشعري والأدبي الروائي والقصصي، كيف ترصد المسارات الإبداعية والجمالية فيما بعد ثورات الربيع العربي، مصريا وعربي؟

( لقد كانت ثورات الربيع العربى بمثابة جراحة عميقة تم اجراؤها للجسد العربى المعتل، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. فقد سيطر على هذا الواقع اكبر درجة من الفساد والاستبداد وهدر المال العام وممالأة اللصوص والفاسدين، على حساب مصالح البسطاء والفقراء .. الخ. وما كان لتلك الثورات أن تشتعل لولا انسداد الأفق الواعد بامكانية التغيير السلمى عبر صندوق الانتخابات وتفعيل القانون. ومن الطبيعى مع كل جراحة أن تنزف الكثير من الدماء، أو أن يصاب الجرح بميكروب، ربما كان ضرره أكبر من الداء الذى استوجب الجراحة من الأساس. من هنا فاننى أتفهم هذه الثورات ولا أدين الضحية، وهى هنا تساوى الشعوب، بل أدين الجلادين الذين أتاحوا بسياساتهم الغشوم الظروف لقيامها، وأدين الاستعماريين الذين حاولوا استخدام هذه الثورات لصالحهم وضد مصالح الأوطان والشعوب التى قامت بتلك الثورات.

ولكن كان لتلك الثورات نتائج مهمة على كل الأصعدة السابق ذكرها، فقد زادت بقدر هائل درجة الوعى السياسى والاهتمام بالشأن العام والثقة فى قدرة الحركة الجماعية على التغيير، كما زادت درجة وضوح الرؤية السياسية والمطالب الاجتماعية لدى قطاعات كبيرة من المجتمع. وان لم تنتصر هذه الثورات فان آثارها عالقة بقوة على رؤوس الحكام والمحكومين، وهاجس تكرارها يؤرق مضاجع الجميع، وهذا يمثل فى حد ذاته نوعا من انتصار هذه الثورات. فقد أصبح لما يسمى ب"الرأى العام" وزن وقيمة وقدرة على التأثير حتى وان لم يفصح عنه بشكل رسمى أو مؤسسى. وحتى وان لم تنتج تلك الثورات تغييرات جوهرية بالنسبة لأنظمة الحكم التى تلتها. 

أما بالنسبة لأثر ذلك على الإبداع الأدبى فاننى أتصور أن الثورة باعتبارها فعلا تاريخيا لا يتكرر كثيرا، لا يمكن تقييم آثارها الابداعية والثقافية فور اندلاعها. وربما تحتاج الى وقت لتنتصر وتظهر آثارها السياسية والاجتماعية ووقت أطول لتظهر آثارها الثقافية. 

وأظن أن الثورة المصرية وقد مر عليها أكثر من عشرة أعوام فقد بدأت آثارها الضبابية فى الظهور المتباين من كاتب لآخر. فهناك من يرى أن الواقع قد أضحى أكثر وضوحا وأن تخومه قد باتت أكثر تحددا وأن علاقاته أصبحت أكثر نصوعا، مما أدى الى انتشار "الرواية" باعتبارها الفن الأكثر تعقيدا، من حيث البناء، والأكثر تعددا من حيث الشخصيات والأحداث .. الى غير ذلك من شروط الفن الروائى الذى ينتشر فى مثل هذه الظروف. بيد أن هناك من الكتاب من يرى الواقع لا يزال، وربما صار أكثر ضبابية والغازا وتأبيا على الفهم، مما يجعل النوع الابداعى الأقرب للتعبير عنه هو القصة القصيرة.  فهى فن غنائى، ذاتى، جزئى، بامتياز.

بينما بقى الابداع الشعرى متراوحا بين هاجس الكشف والارتياد الستيني وهاجس التجريب الشكلى واللغوى والفكرى السبعينى، وهاجس النثرية والمجاز اليومي التسعينى. مع هامش كبير، هو فى الأعم الأغلب، أكثر واقعية، وحياتية، ومباشرة، واحتجاجية، وأقرب الى احساس الانسان البسيط، يحتله شعر العامية، وهو نوع ليس بقليل الشأن بأى حال.

أما عن معالجة الأعمال الابداعية لحدث الثورة نفسه، فقد تم ذلك بالفعل فى كثير من الابداعات فى مختلف الأنواع الأدبية سالفة الذكر، وبعضها جاء تصالحيا والآخر جاء بنفس ملحمى منتصر، وثالث جاء تسجيليا أقرب الى اليوميات وغير ذلك جاء ناقدا لما قبل الثورة وما بعدها بما فيها الثورة نفسها. ولكننى أعتبر أن الأثر الحقيقى للثورات انما يكمن فى تثوير الأدوات الكتابية والرؤى الانسانية، وليس مجرد ذكر الثورة أو معالجة موضوعات تتعلق بها.

 

ـ عن البنى الفكرية والثقافية في نتاجات جيلك النقدي، اين هي تلك الطروحات الجديدة التي تمثل ثمة حوائط صد ضد هجمات مقصودة تمثلت في نسف الهوية مصريا بل ووجوديا؟

( ان هذا الحقل يعد جديدا نسبيا فهو نتاج الثورة المعلوماتية التى ظهرت فى منعطف القرن ولذلك لم تظهر بعد تلك الاسهامات بالكثافة المبتغاة، بعد، لكن على الرغم من ذلك ظهر من بين أبناء جيلى، وأقصد جيل السبعينيات الكثير من الأسماء المهمة والمؤثرة على مختلف الأصعدة، وبخاصة على صعيد الدفاع عن الهوية الثقافية الوطنية. وفى مجال النقد الأدبى، هناك الراحل الكبير د. سيد البحراوى، وبخاصة فى كتابه "البحث عن منهج فى النقد العربى الحديث". والدكتور حسين حمودة فى كتابه "فى غياب الحديقة – حول متصل الزمان والمكان فى روايات نجيب محفوظ"، والدكتور خيرى دومة، وبخاصة فى كتابه "عدوى الرحيل"، والدكتور عبدالرحمان عبدالسلام، وبخاصة فى كتابه "الحداثة التموزية". وغيرهم كثيرون.

 

ـ وماهو جديدك في ماهيات الهوية، هل هي تحديات ثقافية معرفية وفكرية فقط أم هناك عوامل أخرى؟

أعمل الآن على وضع اللمسات الأخيرة لكتاب بعنوان "سؤال الهوية فى الرواية العربية" وأتمنى الانتهاء منه قريبا. وهذا الكتاب الجديد يعد تطبيقا لماجاء من رؤى نظرية فى كتابى "المثاقفة وسؤال الهوية"، الصادر عام 2012 . 

فضلا عن أننى انتهيت من كتاب وهو قيد النشر بعنوان "مسارات وانعطافات – دراسة فى نظرية الأدب المقارن مع ملحق تطبيقى". وآخر قيد الانتهاء ووضع اللمسات الأخيرة، بعنوان : "البناء المشهدى فى شعر أمل دنقل.

ـ ليتك تحدثنا عن جديدك القادم في مجال النقد؟

( وعن ما أتمنى أن أجد الوقت والجهد اللازمين للانتهاء منه فهو كتاب بعنوان : "ظل التاريخ – دراسة فى ظاهرة الحضور التاريخى فى الرواية المصرية" وأتناول فيه الأعمال الروائية التى عالجت شخصيات أو أحداثا محورية، سابقة فى الزمن فى محاولة لاعادة قراءتها برؤية اللحظة الراهنة، فأتناول أعمالا لرضوى عاشور وسلوى بكر وسهام بيومى فتحى امبابى وصبحى موسى وعزة رشاد وضحى عاصى وسعد القرش، ومحمد عون .. وغيرهم.