رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

7 أوهام عن نجيب محفوظ «1».. ماجدة الجندى تحاور حسين حمودة

نجيب محفوظ 
نجيب محفوظ 

 

عالم نجيب محفوظ رحب ومترامٍ ويصعب حصره فى طبقة واحدة وهى الطبقة الوسطى

المرأة فى عالم «أديب نوبل» هى أكثر من يستحق الحب فى هذه الحياة

التقطتُ الفكرة من الدكتور حسين حمودة، الناقد الذى يُفضل أن نطلق عليه «قارئ نصوص»، تواضعًا، وأستاذ الأدب بجامعة القاهرة.. فى مناسبة عن نجيب محفوظ قبل سنوات «مناسبة لم يحضرها أحد» كانت الدكتورة فوزية العشماوى، أستاذة الأدب المقيمة فى سويسرا وصاحبة أول رسالة دكتوراه عن نجيب محفوظ، قبل حصوله على نوبل، قد انتبهت قبل فترة إلى أنه فى أكتوبر ٢٠١٨ يكون قد مر ثلاثون عامًا على حصول محفوظ على «نوبل»، ورأتها لحظة تستحق الاحتفاء، فتواصلت مع «المستشارة الثقافية المصرية» فى فرنسا لشهور، للترتيب والتنسيق، متصورة أن كل شىء سوف يكون على ما يرام، فى الموعد، وأرسلت لى دعوة شخصية منها. جاءت إلى القاهرة، وفى اليوم المشهود فوجئنا بقاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا «خاوية»، لم بحضر أحد، باستثناء ثلاثة من المتحدثين: دكتورة فوزية والدكتور حسين حمودة والفقيرة إلى الله، وأقل من سبعة أنفار، منهم أحد موظفى وزارة الثقافة، تناثروا فى الصالة!

كان المشهد بائسًا، ومع ذلك ألقت دكتورة فوزية إسهامها فى اللقاء وكأنما القاعة مكتملة، واختار دكتور حسين حمودة أن يُفنّد أوهامًا.. «أوهامًا» شاعت أو ارتبطت بمحفوظ، سواء عند النقاد أو القراء. نصف قرن أو يزيد من الكتابة، وأيضًا من النقد والصمت وربما الغمغمات، منها، على سبيل المثال، أن نجيب محفوظ «كاتب الطبقة المتوسطة».. وقد بدأت هذه المقولة منذ خمسينيات القرن الماضى، وارتبطت ببعض الكتابات النقدية التى توقفت عند عالم محفوظ السابق.. ثم استمرت فيما بعد، وربما حتى الآن.. والغريب أن محفوظ قبل هذه الفترة كان قد كتب عن شخصيات تتجاوز حدود الطبقة المتوسطة، كما هو الحال فى روايته «زقاق المدق».. كما أنه كتب، بعد هذه الفترة، بعض الأعمال عن شخصيات ليس لها علاقة بالطبقة المتوسطة، كما هو الحال فى رواية «الحرافيش»، مثلًا.. ولكن ظلت هذه المقولة تلاحق تجربة نجيب محفوظ حتى الآن.

 

■ وكان هذا موضع أول أسئلتى للدكتور حمودة : لماذا طغى حضور الطبقة المتوسطة فى أدب محفوظ عما سواها من فئات اجتماعية، فى شرائح أخرى وعلى الأخص نوعية اقتربت من الهوامش؟ 

وهل كان نفاذ محفوظ إلى «لب الطبقة المتوسطة» بكل مكوناتها، قيمًا واقتصادًا وتأثيرًا؟

- يرى دكتور حمودة أن حضور الطبقة الوسطى فى تجربة محفوظ قد طغى بحكم أنها العالم الذى خبره وعاشه، وأنها الأقرب إليه.. وبحد تعبيره: «وأتصور أنه قد استطاع أن ينفذ إلى أعماقها، أو على الأقل إلى أعماقها فى مجتمع المدينة التى كانت، فى قطاع منها، مكوّنا أساسيًا من مكوّنات عالمه.. ولكنه استطاع، بجانب هذا، أن يستكشف عالمًا آخر، عالمًا هامشيًا، مرتبطًا بحرافيش وصعاليك المدينة وبقاع المجتمع المصرى كله.. فضلًا عن أنه، فيما يخص البعد الإنسانى فى تجربته، تطرق إلى عوالم أخرى تتصل بما قبل انقسام المجتمع إلى طبقات.. وأتصور أنه، فى بعض أعماله، كان مشغولًا بقضايا عابرة للأزمنة، وعابرة للتواريخ.. نجد ذلك فى «أولاد حارتنا»، وفى «الحرافيش» وفى «رحلة ابن فطومة»، مثلًا.. وفى هذه الرواية الأخيرة تناول التجارب الإنسانية الكبرى، فى التاريخ الإنسانى، ومنها مجتمعات ما قبل ظهور فكرة «الملكية»، ثم مجتمعات الإقطاع، والرأسمالية، والاشتراكية.. وهكذا.. عالم نجيب محفوظ رحب، ومترامٍ، ويصعب حصره فى دائرة طبقة واحدة من الطبقات.. حتى لو كان لها حضور لافت فى عدد من أعماله».

■ سألت دكتور حسين حمودة: هل أتت «كلية» الأفكار عند محفوظ من دراسته الفلسفة، أو من نشأته فى حضّانة (تشديد الضاد) «حى» الزمن حاضر فيه بقوة تدفع إلى السؤال «عما قبل» و«ما بعد»؟

- رد: نعم.. هذه ملاحظة رائعة.. طبعًا الخلفية الفلسفية لمحفوظ قادته، دائمًا، للتفكير «فيما وراء» الوقائع، وفيما قبل وفيما بعد الزمن.. والقراءات التى حصرته فى أنه كاتب يكتب عن «مكان»، لم تنظر إلى تأملاته فى هذا «المكان» ولا إلى العمق التاريخى لهذا المكان.. حى القاهرة الفاطمية الذى كان مركزًا فنيًا من المراكز المهمة فى تجربة محفوظ ينطوى على نوع من «التراكب» الذى يجعله يحوى بداخله عصورًا متعددة فى العصر الواحد.. بالإضافة إلى أن محفوظ قد توقف كثيرًا عند هذا التراكب وصاغه بطريقته.. ومن ذلك وقفاته المتعددة فى مدخل روايته «زقاق المدق».. كذلك يمكن أن نلاحظ اهتمامه الكبير فى «الثلاثية» بأثر الزمن على المكان وعلى الشخصيات. 

فى الحقيقة يمكن قراءة «الثلاثية» على أنها رواية «زمن» بقدر ما هى رواية مكان.. والتحولات التى تأتى على شخصيات هذه الرواية، بفعل تغيرات الزمن، تحولات لا نهاية لها.. ومنها ما يرتبط بنوع من «تبادل الأدوار» بين شخصية أحمد عبدالجواد وشخصية أمينة.. هو يؤول إلى الضعف، ويصبح قعيد البيت، بينما تخرج هى من البيت الذى كانت محرومة من مغادرته فى زمن سابق.. محفوظ، كما أشرت حضرتك، مشغول بحركة الزمن، وبالسؤال عما قبل وعما بعد، ضمن انشغاله بالمصير الإنسانى كله وبما يمكن أن يؤول إليه البشر.

■ قلت للدكتور حمودة: أستسمح حضرتك فى «حيز حر» فى السؤال، أحاول من خلاله النجاة من خيط حساس.. هل تأذن لى؟

قلت: هل يمكن لنا أن نقارن ما بين «التفاتة محفوظ» لفكرة الزمن وما بين «عناية الغيطانى» بنفس الفكرة؟

- قال: نعم.. طبعًا نعم.. وهناك منطقة مشتركة فى إبداع نجيب محفوظ وإبداع جمال الغيطانى من هذه الوجهة.. لعل نقطة البداية فيها أن منطقة القاهرة المعزية كانت أشبه بـ«سرّة العالم»، بالتعبير الجغرافى القديم، فى عالم كل منهما.. وهى منطقة تمثل مكانًا مفتوحًا على أزمنة متعددة تتعايش معًا فى الحيز الواحد.. وبالإضافة لهذا، هناك عناية خاصة بفكرة الزمن عند كل منهما وصلتها بالحياة وبالموت وبالخلود، وكل هذا يمثل «انشغالًا» مصريًا، موروثًا وثابتًا تقريبًا، منذ عصر الأسرات المصرية القديمة.. «سؤال الزمن» فى أعمال الغيطانى مطروح بوضوح جدًا، وهو يأخذ بعدًا آخر موصولًا بتأملات التصوف حول الزمن، وهو فى ذلك يستكمل استبصارات بعض المتصوفة فى الزمن، وهى استبصارات مذهلة، أو لا تزال مذهلة، حتى الآن.. ومنها فكرة أن المكان زمن متجمد والزمن مكان سائل.. وقد كتب الغيطانى مقالًا جميلًا ونشره فى مجلة «فصول»، وقدم فيه رؤى خاصة حول علاقة الزمن بالمكان.. هناك صلة مشتركة فيما يخص حضور الزمن فى عالم محفوظ وعالم الغيطانى، وإن دخل كل منهما إلى هذا من مدخل مختلف.

■ قلت: حين نتكلم عن «قضايا عابرة للأزمان» هل نعنى فكرة «الجوهر» أو اللب، هذه فكرة تتعدد معالجاتها عبر حزمة من الكبار فى دولة «كُتّاب الإنسانية» لو جاز التعبير، هل من منظورك أنت، تعينا أو تعيينا لهذه الحزمة؟.. وهل تلونت معالجاتهم بالبيئات أو الأنساق الفكرية التى قدموا منها، أو أن الأسئلة الواحدة لم تقد إلا إلى إجابات شبه واحدة؟ وإن كان فى الأمر ثمة تباين فما «الملمح المحفوظى» فى رؤية تلك القضايا العابرة للأزمان؟

- قال دكتور حمودة: الكُتّاب المشغولون بالقضايا العابرة للأزمنة، الذين تسمينهم حضرتك «كُتّاب الإنسانية» كتّاب قليلون.. وهم طبعًا يتناولون هذه القضايا انطلاقًا من عالمهم، ومن الفترة الزمنية المرجعية التى تخصهم.. ولكنهم يقرأون التاريخ الإنسانى كله، فى رحلته الممتدة السابقة والراهنة والمحتملة، حسب تصوراتهم.. ولذلك طبعًا تتغاير تصوراتهم للمآل الذى يمكن أن تنتهى إليه البشرية.. محفوظ انطلق لهذه القضايا انطلاقات متعددة الملامح عبر رحلته الطويلة، وعبر ما يسميه البعض «مراحل إبداعية» مرّ بها.. فى روايات الأربعينيات، مثلًا، كان مشغولًا بفكرة «الاختيارات» التى تختارها الشخصيات و«النهايات» التى انتهت إليها.. ولكنه فى روايات الستينيات أصبح مشغولًا بقضايا قديمة ومتجددة: قضية العدالة، قضية العلاقة بين الفرد والجماعة، قضية الحرية، وهكذا.. وفى الحرافيش انشغل بقضايا الزمن والخلود والموت، والعلاقة بالسلطة، والسعادة.. إلخ.. وفى نصوصه القصيرة الأخيرة قدم «خلاصات» حول قضايا كثيرة جدًا، كلها عابرة للأزمنة.. وفى هذا كله تباينت معالجات محفوظ للقضايا التى تخص الإنسانية، حتى وإن ظلت تصوراته واحدة أو متجانسة.. التباين يأتى هنا من اختلاف الزوايا التى يطلّ منها على هذه القضايا.. وهى زوايا مرتبطة طبعًا بالتغيرات التى ظلت تطرأ على العالم الذى يعيش فيه.. ويمكن أن نعمّم هذا المعنى على كُتّاب آخرين ممن تسمينهم حضرتك بـ«كتّاب الإنسانية».. كل كاتب منهم يقدم تصوراته وإجاباته عن الأسئلة الكبرى.. وقد تلتقى بعض هذه الإجابات وقد تتباين، أو على الأقل قد تتعدد وتتنوع.. ولكن من المؤكد أنها جميعًا تتكامل لتبلور سعيًا إبداعيًا كبيرًا.

■ سألت: أشرت حضرتك إلى أن محفوظ تناول ضمن ما تناول فى «رحلة ابن فطومة» أو أن رحلة ابن فطومة قد حوت إلى جانب الرؤى الكلية، طلات محفوظية، إن جاز القول، على نظم الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية.. هل ثمة ما يشبه المواقف الواضحة أو المتبلورة لمحفوظ إزاء هذه الأشكال المنظمة للمجتمع، رفضًا أو قبولًا؟

- رد دكتور حمودة: صاغ محفوظ تصورات حول هذه النظم من خلال رؤى شخصية «ابن فطومة» الذى سافر إلى الديار التى تمثل هذه النظم.. والحقيقة أن هذه التصورات لم تقنع بأى نظام من هذه النظم، كانت هناك جوانب إيجابية وأخرى سلبية، دائمًا، وظلت السعادة الكاملة بعيدة عن التحقق فى أى دار من ديار هذه النظم.. ولكن العنابى، فى الجزء الأخير من رحلته، بدأ فى رحلة أخرى إلى «دار الغروب» التى تمثل محطة للوصول إلى «دار الجبل».. وفى هذه المحطة توقفت الرواية عند تجربة التجرد، والزهد، والتصوف، والتعالى على كل ما هو دنيوى، والغناء الخالص المرتقِى بالنفس، والاتصال الحى بالطبيعة.. وكأن فى هذا إشارة إلى ضرورة إعادة النظر فى كل سلبيات النظم التى عرفها الإنسان حتى الآن.. وضرورة التفكير فى نظام آخر جديد يسمح للإنسان الفرد بالتحقق، وللجماعة الإنسانية أن تتحقق، معًا، بعيدًا عن أى مطامح وأية أنانية وأى ظلم وأى انفصال عن الطبيعة.. محفوظ، خلال رحلة «العنابى»، فى هذه الرواية، يرنو إلى مستقبل آخر للإنسانية يفيد من مسيرتها التاريخية السابقة لصياغة مسيرة أخرى مأمولة تحقق للإنسان سعادته فوق هذه الأرض.

■ سألت: «هل يقودنا هذا إلى قول يجعل من محفوظ بعيدًا عن الواقعية يلوذ بمثالية تتحقق فى زهد وتعالٍ وتجد الحل فلسفيًا، وعليه، كان هو ما بنيت عليه حضرتك الوهم الثانى الذى أمسكت به «القول بأن محفوظ فلوبير، أو بلزاك العرب»؟

- قال: ربما يمكن القول إن محفوظ، هنا، لا يقنع بحدود الواقع القريب، وإنه يرنو إلى أبعاد لم يتم الاهتمام بها فى النظرة الواقعية بوجه عام.. أقصد الأبعاد التى تخص «أرواح» البشر، و«أحلامهم» التى لم تضعها النظم المعروفة فى حسبانها.. فضلًا عن أشواقهم المرتبطة بالحرية والعدل وعدم التمييز، وتتصل بعبارته التى اختتم بها روايته «الحرافيش» بـ«براءة الأطفال وطموح الملائكة».. لست متأكدًا من أن هذا يعدّ نوعًا من «المثالية» أم لا.. ولكن من المؤكد أن التصورات التى صاحبت الأفكار النظرية عن «الواقعية» وحدودها أغفلت أبعادًا كثيرة فى الإنسان لم يكن يصح إغفالها.. رغم الأهداف النبيلة التى انطلقت منها النظرة الواقعية بوجه عام.. وإغفال هذه الجوانب كان جزءًا من الأسباب التى قادت إلى انهيار نظم كبرى سعت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.. وفى سعيها تجاهلت مطالب أخرى بجانب هذه العدالة.. محفوظ لم يكن، فى رحلته، مجرد كاتب واقعى يمكن اختصاره فى تعبير «بلزاك» أو «فلوبير» العرب.. كان اهتمامه بالتفاصيل الواقعية جزءًا من عالمه فى رواياته التى كتبها حتى «الثلاثية».. وحتى فى هذه الروايات تجاوز النظرة الواقعية الضيقة.. ثم إنه، فى أعمال كثيرة تالية، تجاوز الملامح الواقعية وأصبح مشغولًا بتقديم صياغات بعيدة عن الواقعية التى أصبحت «بلا ضفاف»، بتعبير روجيه جارودى.. أصبح مشغولًا بصياغات الفانتازيا، كما هو الحال فى «ليالى ألف ليلة»، وبالعالم الداخلى للفرد، كما هو الحال فى «الشحاذ» و«السمان والخريف»، وبالأمثولة، كما هو الحال فى «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، وبالخلاصات المختزلة للتفاصيل، كما هو الحال فى نصوص مثل «رأيت فيما يرى النائم» و«أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة».. وهذه كلها انشغالات بعيدة عن التصورات الواقعية التقليدية، وطبعًا بعيدة تمامًا عن تجربة بلزاك أو فلوبير.

■ سألت «هل هذه البطانة الروحية، وقدرة محفوظ على كسر أطر تقليدية للواقعية المتعارف عليها، إن جاز التعبير، علّها تقدم وعيًا أشمل أو رؤية أكثر اكتمالًا «للإنسان»؟ وهل ينفرد بها محفوظ، فى «دولة كتاب الإنسانية» إن اتفقنا، على وجودها؟

- قال دكتور حمودة: هذا تعبير جميل، «البطانة الروحية».. نعم، فيما أتصور، هذه البطانة الروحية، التى تستند إلى اهتمام بالإنسانية، وتنطلق من وعى فلسفى متسائل، تقدم وعيًا أشمل حول الإنسان.. طبعًا لا ينفرد محفوظ بهذا الوعى.. كل الكتاب المشغولين، والكاتبات المشغولات، بالمصير الإنسانى، قاربوا وقاربن هذا الطموح ووصلوا ووصلن، بدرجات متفاوتة، إلى رؤى مكتملة حول الإنسان.. والمهم، بجانب هذا، أن بعضهم قدم «أعمالًا» إبداعية جميلة، قادرة على البقاء، وبالتالى قادرة على بثّ هذه الرؤى فى سياقات تتجاوز السياقات التى كتبت فيها، والثقافات التى انتمت إليها، والأزمنة التى انطلقت منها.

■ سألت: «هل يمكننا طرح بعض الأمثلة لأسماء معينة؟

- رد: ذكر الأمثلة «فخ» دائمًا.. لأن الذاكرة تسقط منها أسماء، دائمًا.. ولكن يمكن التفكير هنا فى أصحاب الأعمال الكبيرة فى الأدب الإنسانى كله، ومنه الأدب العربى.. أقصد الأعمال التى أصبحت تمثل «علامات» على سبيل الرحلة الإنسانية الإبداعية فى الثقافات الإنسانية كلها.. وعندى أمل كبير فى أن تسمحى لى بأن أقفز على فخ الأسماء.

■ قلت، نأتى للمرأة فى العالم المحفوظى وقد تراوحت، إن أذنت، مواضعها ما بين «الفهم الشائع»، وأضع بين قوسين كلمتى، الفهم الشائع «لأمينة فى الثلاثية»، وما بين الشاكلة الموزعة على أنماط متباينة، فهى فى بداية ونهاية تستقطب كل التعاطف بل تدفع إلى الثورة على الأطر الاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية، وصورتها فى زقاق المدق، وحتى فى ثرثرة على النيل. 

سؤالى الأول: هل بنى الفهم الشائع «ما اعتبرته حضرتك وهمًا ثالثًا» لضدية محفوظ للمرأة من «أمينة» الثلاثية بالذات؟ 

- أفاض دكتور حمودة: هناك ما يشبه «إساءات القراءة» للثلاثية عند بعض من كتبوا عنها، وحتى فيمن حكموا عليها من خلال الفيلم المأخوذ عنها دون قراءتها.. محفوظ لم يكن أبدًا ضد المرأة، بل على العكس من ذلك تمامًا.. ولم يصورها بصورة سلبية أبدًا أيضًا.. هو كان يصور واقعها الردىء الذى يسلبها حقوقها.. وكان يرصد توقها للخروج من القيود التى ظلت لفترات طويلة مفروضة عليها.. وشخصية «أمينة»، مثلًا، تمر بتحولات متعددة عبر الزمن الذى تقطعه «الثلاثية» من أولها إلى آخرها.. فى البداية تطرد من بيتها لأنها تجرأت وخرجت من البيت، من دون «إذن» زوجها السيد أحمد عبدالجواد لزيارة «سيدنا الحسين».. ولكن فى موقع متقدم زمنيًا فى الرواية تحصل على بعض حقوقها، بل ويحدث نوع من «تبادل الأدوار» بينها وبين زوجها المتسلط عليها، يصبح هو بفعل المرض قعيد البيت، بينما تخرج هى، بحريّة، لتزور المزارات الدينية المتعددة.. محفوظ هنا يرصد أوضاع المرأة، فى بعض الفترات، دون أن يؤيد هذه الأوضاع.. وهناك نصوص كثيرة لمحفوظ ينتصر فيها للنساء، ومنها نص «المطرب» المنشور فى «أصداء السيرة الذاتية»: 

«قلبى مع الشاب الجميل، وقف وسط الحارة وراح يغنى بصوت عذب: الحلوة جاية، ولاحت أشباح النساء وراء خصاص النوافذ، وقدحت أعين الرجال شررًا. ومضى الشاب هانئًا، تتبعه نداءات الحب، والموت»..

النساء هنا مرتبطات بالحب والجمال، بينما الرجال مرتبطون بالغضب والغيرة والموت.. والراوى، هنا، متعاطف مع من يحرك الإحساس بالجمال والحب، أى مع النساء.

■ السؤال الثانى: هل حصر محفوظ هالة الكبرياء فيمن أحبها كمال عبد الجواد وحدها، وهنا وفى نفس السياق يرتبط بنموذج الحظوة المالية والاقتصادية؟

- كمال عبدالجواد، فى تجربة حبه القاسية والمعذّبة والمفتوحة على موت مجهول، فى «الثلاثية»، كان منقادًا إلى الجمال البعيد المراوغ.. متمثلًا فى «عايدة» التى سوف يسير فى جنازتها دون أن يدرى.. ولا أظنه كان يفكر فى أنها «غنية» أو ذات حظوة مالية واقتصادية أم لا.

■ السؤال الثالث: المرأة فى بداية ونهاية أليست محفزة على رفض كل النظام القائم؟، وبالتالى يمكن استقراؤها إيجابيًا، فليس من الضرورى لإيجابية الفعل، التصريح بصورته المعهودة؟ ونفس الشىء فى الزقاق وأيضًا ثرثرة على النيل؟

- المرأة فى «بداية ونهاية» يتوزع تناولها بين «الأم» و«نفيسة» ابنتها.. وفى تناول التجربتين الخاصتين بهما نجد نموذجين، نموذجًا للأم التى تقاتل من أجل العيش، وتربية أبنائها، فى ظروف قاسية جدًا تدفع للتساؤل عما يبدو نوعًا من «القدر الاجتماعى» الذى صاغها.. وطبعًا فى هذا نوع من الإدانة للمجتمع الذى كان قائمًا.. وهناك نموذج «نفيسة» طبعًا التى مرت بما يشبه الاختبار الأخلاقى، بجانب وطأة الفقر والاستغلال من أخيها.. وهى ضحية بامتياز من نواحٍ متعددة.. وربما هناك تشابه مع نساء أخريات تشيرين حضرتك إلى بعضهن، فيما يخص الضغوط الاجتماعية على المرأة، وسعيها للتحقق بطرق متعددة، بعضها غير أخلاقى ومقضى عليه بالفشل.. لكن محفوظ، فى هذا كله، يجسد مجموعة من الملابسات التى تقود ليس إلى إدانة المرأة، ولكن إلى رفض المجتمع الذى قادها إلى ما قادها إليه.. نجد هذا فى الروايات التى أشرت حضرتك إليها، وأيضًا، وبشكل خاص، نجده مع شخصية «ريرى» فى «السمان والخريف».. هى تقوم بكل الأفعال الإيجابية الممكنة، ولعلها الشخصية المضيئة أكثر من غيرها بهذه الرواية، وهى فى النهاية تجنى ثمار أفعالها الإيجابية وتنجح فى صياغة عالمها كما تريد.

■ السؤال الرابع: هل خفت حضور المرأة أو يخفت كلما اقتربت أعمال محفوظ من ذلك البعد المتعالى على الواقع المحدود، واتجهت نحو اللوذ بالزهد والتصوف؟

- هناك حضور آخر للمرأة فى بعض نصوص محفوظ التى اقتربت من حدود التصوف.. وفهم محفوظ للتصوف فهم خاص، يصل بين الزهد وحب الحياة، وحب المرأة باعتبارها جزءًا أساسيًا جدًا من الحياة، وربما صائغتها الأولى.. ونجد هذا المعنى واضحًا جدًا فى نصوص كثيرة تضمنها عمله «أصداء السيرة الذاتية».. لم يفهم محفوظ التصوف على أنه جزء من الانفصال عن العالم، ولا على أنه نوع من العزلة.. بل ربط دائمًا بينه وبين حب الحياة.. والمرأة، فى عالم محفوظ كله، هى أكثر من يستحق الحب.

■ السؤال الخامس: لمَ لا نرصد تحولات ثورة المرأة فى العقود الأخيرة، التى اتسع فيها، حضورها فى مضمار الفضاء العام، هل ثمة ما يشبه «التجاهل» لنموذج المرأة «الفاعل» منذ ستينيات وسبعينيات وثمانينيات وتسعينيات وحتى الألفية الثانية؟ أى إنه خطأ فى الرصد؟

- قال: هناك تجاهل، للأسف، حتى الآن، فى رصد الحضور المتنامى للمرأة فى المجتمع المصرى، وبعض بلدان الوطن العربى، خلال العقود الأخيرة التى تشيرين إليها حضرتك.. نجد هذا فى مجالات عديدة منها الإبداع مثلًا.. ليس هناك أى خطأ فى رصد حضرتك.. من المؤكد أن المرأة المشاركة الفاعلة، ومنها المرأة المبدعة، أصبح لها حضور أكبر خلال العقود الماضية.. ولكنى موقن من أنها تفرض حضورها بدرجات أكبر، متزايد، حتى وإن تجاهل البعض هذا الحضور.

■ قلت: أقصد حضور هذا النموذج فى العالم المحفوظى، أود سماع رأيك؟

- قال: «وهناك حضور واضح للمرأة الباحثة عن تحققها، والفاعلة، فى عالم محفوظ خلال الفترات المرجعية التى تناولها.. ونستطيع أن نجد هذا منذ الثلاثية، مثلًا فى شخصية الفتاة اليسارية التى تعمل بالصحافة، وتنتمى إلى العالم الجديد البعيد عن المواضعات المكبّلة للحرية.. ونجدها أيضًا فى شخصية «إلهام» فى رواية «الطريق»، و«زهرة» فى رواية «ميرامار»، وفى شخصية «حليمة» التى تقود عاشور الأخير، فى رواية «الحرافيش» إلى الوعى الحقيقى الذى يصل إليه.. ثم نجد نماذج أخرى نسائية تكاد تمثل «عمود العالم» كما هو الحال مع شخصية «الست عين» فى رواية «عصر الحب».. وفى شخصيات كثيرة فى روايات «المرايا» و«حديث الصباح والمساء».. لكن قطاعًا كبيرًا من أعمال محفوظ ارتبط بتناول فترات سابقة على العقود الممتدة من الستينيات وحتى هذه الألفية، وبالتالى لم يتناول فى روايات هذا القطاع نموذج المرأة الذى نشهده الآن.