رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخيال والحرية

 

عندما أقامت إسرائيل خط بارليف بعد احتلال سيناء، وصف حمدى الكنيسى المراسل الحربى ذلك الخط فى كتابه «الطوفان» بقوله: «هو أقوى خط دفاعى فى التاريخ الحديث»، لكن قائدًا مصريًا عظيمًا هو اللواء المهندس باقى زكى يوسف وقف طويلًا يتأمل «أقوى خط دفاعى»، ثم هدمه بخرطوم مياه لا أكثر!! وذابت فى وحل الأتربة خمسمائة مليون دولار تكلفة بناء بارليف. حاجة الوطن إلى الحرية حركت الخيال وجعلته يبدل الواقع بخرطوم مياه. 

وخلال ثورة ١٩١٩ أصدر القائد العام البريطانى أمرًا بسجن كل من يذكر اسم سعد زغلول ستة أشهر وجلده عشرين جلدة، واخترع المصريون طريقة ليتغنوا باسم سعد فى طقطوقة تزج باسم سعد زغلول: «يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح».. « يا زرع بلدى.. عليك يا وعدى.. يا بخت سعدى.. زغلول يا بلح»! 

حاجة الوطن إلى الحرية أججت الخيال ليكسر الحصار، وفيما بعد سجلت المطربة «نعيمة المصرية» الأغنية أسطوانة، وبقيت دليلًا على الصلة الوثيقة بين الخيال والحرية والفن. 

وفى فيلم «لا وقت للحب» بطولة فاتن حمامة ورشدى أباظة، قصة العبقرى يوسف إدريس، قامت القوات الإنجليزية بمحاصرة منطقة شعبية للقبض على الفدائيين فيها، وكان حمزة «رشدى أباظة» يتجه إلى المنطقة التى كمن بها جنود الاحتلال، فتجمع أطفال المنطقة وغنوا من على رأس الشارع بزعامة الولد دقدق أغنية تبدو بريئة وفى باطنها تحذير لحمزة من دخول المكان: «إوعى تخش العشة يا ديك.. إوعى التعلب مستنيك»! وانتبه حمزة إلى النبرة المتوترة فرجع ولم يدخل الشارع. مجددًا كان الخيال والفن أداة لتغيير الواقع، واستنقاذ البطل، وتأجيج روح المقاومة، ومجددًا كانت الحاجة إلى الحرية أم الخيال والأغانى. 

وفى الحرب الأمريكية على فيتنام فى ستينيات القرن الماضى، كانت كفة التفوق العسكرى تميل بالكامل لصالح أمريكا، وتحرك الخيال من أجل الحرية، وكان الجنود الأمريكيون يمضون بأسلحتهم فى الغابات وهم يمضغون «اللبان» الأمريكى، فكان الفيتناميون يضعون علب ذلك اللبان فى أعشاش النحل على الشجر، ثم يضربون الأعشاش بالعصى بعنف، مرة واثنتين، حتى تعلم النحل أن تلك الرائحة تعنى أنه فى خطر، فصار يهاجم الأمريكيين بكثافة وجنون فور مرورهم فى الغابات فتتساقط أسلحتهم ويقعون أسرى عند الفيتناميين! قام الخيال بدوره فى هزيمة أمريكا ورحيلها ومن خلفها نحو ستين ألف قتيل من جنودها. 

وحين سُئل «هو تشى منه» فيما بعد: «لقد كلفتكم الحرب الكثير جدًا.. ألم يكن السلام أربح لكم؟» قال: «نعم.. لكن الحرية لا تقاس بثمن»! 

الحاجة إلى الحرية كانت دومًا أم الخيال الذى اخترع خراطيم المياه وأغانى زغلول وعلق علب اللبان على فروع الشجر. وعندما حرر الفلسطينيون الستة أنفسهم من سجن جلبوع مؤخرًا، قام الأطفال الفلسطينيون بعمل يشبه ما قام به الأطفال فى فيلم «لا وقت للحب»، وعندما بدأت الشرطة الإسرائيلية فى البحث عن الأبطال الستة، راح الأطفال ينثرون على الطرق مناديل، وزجاجات مياه معدنية فارغة، وملابس قديمة لكى يضللوا الشرطة وتتوه عن الأثر الحقيقى لمن فازوا بحريتهم. 

الحاجة إلى الحرية لا تشعل الخيال فحسب بل الحب أيضًا، حتى إن عاشقًا كتب على جدار منزل بمدينة نابولى الإيطالية يتغزل فى محبوبته قائلًا: «جميلة أنت يا حبيبتى.. مثل الفلسطينيين الستة الذين حرروا أنفسهم»! لم يعد الخيال والفن والحرية فحسب.. بل الحب أيضًا!

وإذا كان معظمهم قد أُعيد اعتقاله.. فإن شمس الحرية لن يغيب نورها أبدًا.