رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد درويش البحر.. أسرار وعنفوان وطزاجة وخلود

مثل البحر أنما أعيش، لأكون "وفية "، قدر ما تسمح طاقتى، لكل منْ منحنى الراحة، والسعادة، والشجن اللذيذ، والتناغم الممتع مع ذاتى. وهو رجل، فنان، استثنائى الموهبة، منحنى الكثير من لحظات السعادة، والفن المبدع، الذى يسكن وجدانى، ويؤنس العالم الموحش، ويروى الزمن الصحراوى الجاف.

هو "سيد درويش البحر" 17 مارس 182 – 15 سبتمبر 1923، والذى تمر ذكرى رحيله الـ 98، هذا الأسبوع. هذا الشاب الإسكندرانى، الثورى، الطموح، المعجون بالموسيقى، تتدفق من كل مكان فى جسده.. موهبة استثنائية، مصنوعة من ذهب، تتساقط منه، نغمات وايقاعات،  أينما ذهب.

اسمه «سيد درويش البحر»، وعند «البحر»، كان مولده. وهو فعلا، ابن البحر الوفى، الذى أخذ من الأمواج أسرارها، وعنفوانها، وطزاجتها، ومن اللون الأزرق، سحر الشجن.

أحدث ثورة، فى الموسيقى العربية الراكدة النائمة، شكلا ومضمونا. لم يخاصم التطريب، والارتجال، والزخارف، التى كانت سائدة فى عصره. لكنه التزم بالتعبير البسيط، عن اللحن، لأنه رأى أن الغِناء من حق الجميع. قلب المسرح الغنائى رأسا على عقب، وجدد فى جميع ألوان وقوالب 
الغِناء.

امتزجت ألحانه بالروح الوطنية المتمردة، وأول منْ دعا المرأة إلى النهوض، وترك الخضوع والاستسلام على أنغام الموسيقى. حملت موسيقاه أصوات كل الفئات والشرائح، والطوائف.. وسافر بعاطفة الحب إلى آفاق جديدة.

أدخل الموشحات والموسيقى الكنسية فى نسيج اللحن.. عشق الموسيقى الإيطالية، خاصة الأوبرا.. وكان أول منْ استخدم آلات الأوركسترا الغربية فى الموسيقى العربية.. خلع الجبة والقفطان، ليصبح الشيخ المودرن، المزروع فى التربة المصرية، والعصرى فى رؤيته وأمنياته.

 سيد درويش، بحق، أستاذ كل الأجيال المتلاحقة. لقد زرع حديقة واسعة، تنبت فيها مختلف أنواع الورود والأزهار، وليحظى بعبيرها كل واحد، حسب موهبته، وطاقته. وحينما سألوه عن غزارة ألحانه، وتمكنه من جميع أشكال الغِناء،  قال: "أقدر كمان ألحن الجورنال".
 

إن محمد عبدالوهاب ١٣ مارس ١٩٠٢ – ٤ مايو ١٩٩١، نفسه الذى نعتبره فخر موسيقانا العربية، وموسيقار الأجيال ، يعترف بكل بساطة، وتواضع: "أنا درويشى حتى العظم". 

وفي حوار له، قال نجيب الريحاني: "عندما استمعت أول مرة الى سيد درويش أدركت أنه شئ جديد تماما على الأذن الموسيقية العربية". اعتزم سيد درويش، السفر إلى إيطاليا، ليتقن أصول التلحين للمسرح الغنائى. وفعلا استطاع أن يجمع مبلغا من المال، مقابل بيع نصيبه، في بيته بجزيرة بدران.

ذهب عند أخته ليقيم فى الإسكندرية. وكان مشغولا فى إنهاء تلحين نشيد وطنى لطالبات المدارس، احتفالا بعودة سعد زغلول، من المنفى، يقول: "مصرنا وطننا سعدها أملنا".  
وفعلا، عاد سعد زغلول من المنفى، وغنت له الطالبات نشيد الاستقبال. وفى وسط المشاعر الوطنية المتأججة، لم يكترث أحد من المارة،  بجنازة يمشى فيها أربعة أشخاص فقط. وكانت جنازة سيد درويش.

وحتى اليوم، لا يزال موت سيد درويش، فى ١٥ سبتمبر ١٩٢٣، وهو فى عمر ٣١، لغزا يثير الغموض، كان التفسير الرسمى لموته، هو سكتة قلبية، نتيجة جرعة زائدة من المخدرات. والتفسير الثانى، هو اغتيال الشيخ سيد، بالسم، لانخراطه فى الحركة الوطنية، وأغنياته الثورية التى يرددها الناس فى كل شبر فى مصر.
وتطالب عائلته وبعض الباحثين، والمؤرخين، بإعادة ملف التحقيق ،  وتحليل جثته ، باستخدام تقنية الحمض النووى، للتأكد من سبب الوفاة. 
أغنياته كلها تحرك القلوب، والعقول. وهذا من دلائل النبوغ. لكننى أحب جدا أنا هويت وانتهيت والله تستاهل يا قلبى".. "ضيعت مستقبل حياتي". 
"شد الحزام على وسطك".. "سالمة يا سلامة".. “القلل القِناوى". 
ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم.. "قوم يا مصرى" .. “أنا المصرى”. "الشيطان" التى تعد أقصر أغنية فى تاريخ الموسيقى العربية .
 

أما أغنية «أهو ده اللى صار»، فإننى لا أسمعها إلا ويرتعش جسدى. واللحن الساحر " زورونى كل سنة مرة "، يحولنى إلى كتلة من البكاء، والشجن . وبعد رحيل أمى " نوال " منذ سنة أشهر ، أصبحت أتجنب الاستماع اليه ، حتى لا أروح فى غيبوبة ، ربما لا أفيق منها.

 ولا نغفل نشيد" بلادى بلادى" ، موسيقى السلام الوطنى. حينما أرى الناس، يقفون إجلالا لنشيد الوطن، أعتقد أنهم فى اللحظة نفسها، يقفون إجلالا، لسيد درويش، صانع اللحن الوطنى لمصر .  وفى هذا عزاء، له ألف دلالة.
 فى ١٥ سبتمبر، من كل عام ،  أحتفل وحدى بالشيخ سيد درويش، بسماع أغنياته ، وأقول له: “ يا سيد درويش البحر، لا تحزن.. لا كرامة لنبى فى وطنه.. وأنت باق خالد ، بالضبط مثل البحر”.

من بستان قصائدى:

أريد أن أكتب قصيدة.. تغنينى عن صداقة البشر 
تمحو عبث وقسوة القدر.. تميت الأجوبة وتوقظ السؤال 
داخلها يطمئن قلبى المؤرق .. قصيدة لا تشترط الوحى
بين سطورها يجرى دمى .. تزهد حياة مصيرها زوال  
أريد أن أكتب قصيدة.. تحررنى من ضعفى وجزعى
أبدأها وأنهيها بمرارة الوجع .. على رحيل أمى "نوال"