رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى تطييب محمود العربى.. شيخ الصنعة وشهبندر التجار

 

شيخ الصنعة وشهبندر التجار!!.. هل يلائم هذا العنوان كتاب ألف ليلة وليلة؟ ربما، فقصته تمتلئ بالصدف والغرائب، وحياته أقرب لتحقيق المستحيل. فمن يتخيل أن فتى قرويًا يأتى إلى القاهرة، فى العاشرة من عمره، يتيمًا، لا يحمل شهادة دراسية، فقط يستطيع القراءة والكتابة، يمكنه أن يصبح شهبندر تجار القاهرة، وأن يقترن اسمه بواحدة من قلاع الصناعة فى العالم، فلا يقال توشيبا دون أن يقال العربى أو محمود العربى.

منذ وعيت وأنا أقدر العمل والاجتهاد، ولا أرى طريقًا سواهما تستقيم به الحياة. لذا أثمن تجارب الذين اتخذوا العمل والاجتهاد منهج حياة، فإذا اقترن ذلك بالإخلاص والأمانة والوطنية جعل من هذه النماذج قدوتى وشيوخ طريقى.. ومحمود العربى واحد من هؤلاء الذين أتمنى أن أحكى دائمًا حكايتهم لطلابى، وأن أكتب قصته لقرائى، رغم أننى لم ألتقِ به أبدًا، ولا توجد صلة تربطنى به، إلا أننى كنت أحمل له إعجابًا وتقديرًا كبيرين، فهو أحد الكبار فى عالم الصناعة الوطنية، إن لم يكن كبيرهم، فهو شيخ الصنعة وهو شهبندر التجار. 

بدأ محمود العربى حياته العملية، عاملًا باليومية فى منطقة الأزبكية، واشتغل بائعًا فى محلات التجارة، ثم عمل لحسابه الخاص فى التجارة، ثم تحول للصناعة وأسس شركته التى تنامت تدريجيًا لتصبح نموذجًا لأكبر قلاع التجارة والصناعة المصرية الخالصة. 

هذه الرحلة التى تستوعب كتابتها سطور، امتدت لأكثر من ثمانين عامًا، تميزت خلالها شخصية «محمود العربى» بأنه رجل يعمل ما يفهمه فقط، فقد دخل إلى مجال الصناعة الكهربائية بعد أن عمل فترة بالتجارة بها، وقد سبق له العمل فى مجال الأدوات المكتبية فقام بتصنيع الألوان، والحبر والبرجل «الأدوات الهندسية للطلبة». وهو رجل لا يشتت نفسه، حتى العمل بالسياسة وجده مضيعة للوقت، فلم يكرر تجربة ترشحه لعضوية مجلس الشعب، فهو يتمسك بما يخدم صناعته وتجارته، فحرص على عضوية مجلس إدارة الغرفة التجارية، واهتم بأن يدرس أبناؤه وأحفاده فى الجامعة تخصصات الهندسة والتجارة والإدارة؛ كى يطوروا بالعلم ما بناه بالكفاح. 

كما تميز «العربى» بقدرته على التواؤمِ مع الظروف وتحويل ما يبدو خسارة إلى مكسب، فقد كانت تجارته فى فترة الستينيات تقوم أساسًا على الأدوات المكتبية والمدرسية، وعندما قررت الحكومة صرف المستلزمات المدرسية للتلاميذ بالمجان، تحول من تجارة الأدوات المدرسية إلى تجارة الأجهزة الكهربية، خاصة أجهزة التليفزيون والراديو والكاسيت. وأحيانًا ما يلعب القدر لصالح الشخص المجتهد، فقد كان سبب حصوله على توكيل توشيبا، هو تعرفه على أحد اليابانيين الدارسين «بالجامعة الأمريكية» بالقاهرة، وكان دائم التردد على محلاته، وكان هذا الشخص اليابانى يعمل لدى شركة «توشيبا» اليابانية، فكتب تقريرًا لشركته، أكد فيه أن العربى هو أصلح مَن يمثل توشيبا فى مصر، فوافقت الشركة على منحه التوكيل، وفى عام ١٩٧٥م زار العربى اليابان، ورأى مصانع الشركة التى حصل على توكيلها، وطلب من المسئولين فيها إنشاء مصنع لتصنيع الأجهزة الكهربائية فى مصر، وهو ما تم فعلًا، على أن يكون المكون المحلى من الإنتاج ٤٠٪، رفعت لاحقًا إلى ٦٠٪، ثم ٦٥٪، حتى وصلت إلى ٩٥٪، ومع تطور الإنتاج أنشأ شركة «توشيبا العربى» عام ١٩٧٨م.

و«محمود العربى» رجل عملى، متواضع، لا تغره المظاهر، فهو ظل حتى وفاته يركب سيارة مرسيدس لم يغيرها منذ عشرين عامًا، ورغم أنه يملك شركة تقدر مبيعاتها بـ١٠ مليارات جنيه، إلا أنه يحصل على راتب محدد شهريًا، وكذلك كل أفراد عائلته الذين يعملون معه فى شركاته، أما الأرباح فيتم استخدامها فى توسيع الصناعة، ولا يلجأ العربى للعمل بأموال البنوك إلا مضطرًا، أو يكون هذا هو خياره الوحيد وبشرط ألا يقل رأسماله فى المشروع عن ٥٠٪، والبقية تمويل، فهو يرى أنك إذا أردت الاقتراض فلا تقترض أكثر مما معك، فنقودك ستكسب وما تكسبه سيسدد ما اقترضته، أما الاقتراض دون أساس فهو خسارة، فالعمل بمال الناس لا يفيد «مال الناس كناس».

طيّب الله رجلًا جعل من التجارة.. «تاء» تقوى و«الألف» أمانة، و«الجيم» جرأة، و«الراء» رحمة.