رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القدوة التى يحتاجها البعض

 

ما إن علمت بخبر وفاة رجل الأعمال محمود العربى حتى قضيت الليل وشطرًا من النهار أقرأ مذكراته، التى حملت اسم «سر حياتى»، محاولًا فهم هذا الرجل.. وأقول إن سر هذا الرجل يكمن فى أنه لم يكن فاسدًا ولا مفسدًا، وأنه اختار أن يسير فى الطريق المستقيم لا يحيد عنه، فأكرمه الله بكرمه، وأفاد واستفاد.. لقد لفت نظرى ذلك الإجماع على الرجل، كما لفت نظرى النعى الذى نعاه به صندوق «تحيا مصر» واصفًا إياه بأنه كان شريكًا دائمًا للمشروع، وأنه كان يفعل ذلك فى صمت، وتجرد، فى حين كان بعضهم يتبجح قائلًا نحن ندفع الضرائب، ولن نتبرع.. هذا الرجل الذى أضاف لحياتنا عشرات القيم، وسار عكس التيار، فكان رجل صناعة فى وقت يفر فيه الآخرون من الصناعة، وسدد كل قرش أخذه من البنوك، فى وقت كان بعضهم يقترض المليارات ويهربها خارج البلاد، وفر من السياسة والإعلام، فى وقت كان بعضهم يبذل الغالى والنفيس لإقحام نفسه هنا وهناك، وعرف الله حق معرفته، فعمّر الأرض وعمل وفتح البيوت، فى حين كان بعضهم لا يرى فى الدين غير مشاركة الدعاة فى مشاريع تجارية وإقامة دروس يختلط فيها الرياء بالمصالح المادية.. إن أعظم ما تخرج به من قراءة مذكرات الرجل، أن الأمل فى الله، والعزم، والخيال، والعمل، والتماسك الأسرى هى مفاتيح النجاح، وأنك يمكن أن تنجح وأنت من أهل اليمين، لا من أهل الشمال، حتى لو كان نجاحك أصعب، أو مكسبك أقل، رجل ريفى، يملك موهبة فطرية فى التجارة، تساندها استقامة أخلاقية، وحكمة روحية، وإيمان بأن الخير هو الذى سينتصر فى النهاية. بدأ حياته برأسمال قدره ثلاثون قرشًا، وانتهى بمجموعة صناعية أصولها مليار ونصف المليار جنيه، وربما تزيد قيمتها عن هذا بكثير، أسس مدارس ومساجد، وجمعيات خيرية، دون دعوة من أحد ودون إعلان، روى فى مذكراته أنه كان طفلًا يعمل فى محل، وأخطأ فى جلب بضاعة معينة فصفعه صاحب المحل، فذهب للتاجر الذى اشترى منه البضاعة فصفعه أيضًا، فسار ذاهلًا فى الشارع فأغضب سائق تاكسى فأوقف التاكسى وصفعه. لكنه يروى هذه القصة باسمًا، وقد حقق انتصاره فى الحياة.شارك بائعًا زميلًا له واثنين من التجار فى أول محل له، ووقع زميله ضحية المرض ثم مات فصمم على أن تحصل أسرته على نصيبه كاملًا، واختلف مع شريكيه لهذا السبب وأسس شركة جديدة جعل فيها حصة لصديقه المتوفى وأنفق على أبنائه حتى أتموا تعليمهم ومنح كل منهم مبلغًا كبيرًا ليبدأ مشروعًا خاصًا به، طبق قاعدة يسير عكسها أغلب التجار فى مصر، كان يكسب القليل فيبيع الكثير، كان يكسب مليمًا فى كل قطعة أدوات مكتبية يبيعها فى الستينيات، وحين بدأ توزيع أجهزة التليفزيون كان يكسب جنيهًا واحدًا فقط فى كل جهاز تليفزيون يبيعه، لكنه باع ملايين الأجهزة لهذا السبب، أرسلت شركة توشيبا مستشرقًا يابانيًا يدرس السوق المصرية ويرى مَن يصلح ليكون وكيلًا لها، فحصل على الوكالة بمجهوده ومهارته فى التجارة، انبهر عندما شاهد مصانع الشركة، وقال لنفسه إن التجارة لا تضيف كثيرًا للمجتمع، رغم أن مكسبه من الاستيراد كان مضمونًا وربما يفوق مكسبه من التصنيع، حذره كل الخبراء من تأسيس مصنع للتليفزيونات، لكن حدسه قال له إنه سينجح فسار وراء حدسه، ونجح نجاحًا أسطوريًا، فى التسعينيات وما بعدها سار كل رجال الأعمال وراء المكسب المادى وأسسوا منتجعات سكنية، لكنه رفض أن يخرج من مجاله وافتتح المزيد من المصانع، يقول إنه مول مصانعه بقروض من البنوك التى يصف مسئوليها بالوطنية دون أن يدفع جنيهًا زائدًا، لأن تعاملاته كانت مستقيمة، يسكن مع أولاده وأولاد أخوته فى عمارة سكنية فى مصر الجديدة، فى حين أنه يستطيع أن يسكن فى أغلى القصور هو وأبناؤه، وأحفاده، لكنه الاعتدال الذى يتسم به كل الشرفاء فى العالم كله، ولا يعرفه المترفون لدينا.. رحم الله محمود العربى الذى يحتاج الكثيرون أن يتخذوا منه قدوة فى النجاح والوطنية، والإنسانية أيضًا.