رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل الوجه أكرم من القدم؟

صادفت مقالًا على صفحات التواصل الاجتماعى يبدى كاتبه استياءً من بعض الوظائف أو المهام التى تنطوى على امتهان لكرامة مقدمها، حتى وإن كانت ضمن وظائف «أكل العيش»، وكان الحديث يدور تحديدًا حول حرفة «الباديكير» وهى خدمة تقدمها صالونات التجميل النسائى، ويقوم فيها الفنى بتهذيب وتقليم أظافر الأصابع وصنفرة الزوائد الجلدية بالقدم، وبالرغم من أن كاتب المقال ظل يتأرجح بين التعاطف مع مقدمى هذه الخدمة تارة ومواساتهم فى مصاب الكرامة تارة أخرى، فإنه كان أكثر ميلًا لرفض مثل هذه الحرف التى توصم صاحبها بالتفريط فى الكرامة.

دققت المبدأ ورحت أستدعى ذكرياتنا المهنية نحن الأطباء فى التعامل مع القدم السكرى، وما أدراك ما هى القدم السكرى، فهى عفن الموت والتقيح والصديد وتدليل القدم الميتة التى انتهت صلاحيتها، ولولا الكثير من الصبر لكان البتر والدفن أكرم الحلول.

الطبيب لا يعرف يقرأ مفهوم «العورة» لدى التعامل مع أبدان المرضى، فلفظ العورة له سياق أخلاقى وشرعى يسرى على كل البشر فى كل مناحى الحياة حتى مع غسل الميت ودفنه، ولكنه يقف ولا يؤذن له بالدخول عند باب غرفة العمليات، وهناك تضيع محاذيره وتنتهى سطوة وغلظة هذا اللفظ. ترقد سيدة المخاض على ظهرها وتجاهر بنصف بدنها أمام الفريق الطبى بلا خجل منها، ولا تلصص من المحيطين وكأنها بين أيادى المصففين فى صالون التجميل، وينسحب نفس الأمر على مرضى جراحات الشرج والمسالك البولية.

الطب هنا مهنة «أكل عيش» أيضًا، وقدم الزبون فى صالون التجميل هى ذات القدم فى غرفة العمليات، فما الفارق إذن؟

فى الحقيقة، نحن البشر نتحسس الحرج وتشتعل لدينا الحفيظة ونصدر أحكامًا خاطئة لمشاهد نظن أنها تسىء للكرامة، والسبب عدم وضع المفاهيم فى سياقها الصحيح، وعندما يتعلق الأمر بالكرامة فالعبرة بالنوايا لا بالحركات والأفعال، وتخيل المعانى يمكن أن يؤتيها الشخص بحركة الإبهام ما بين التأييد للأعلى والاستياء للأسفل، ناهيكم عن الإشارة بإصبع السبابة الذى يمكن أن يستدعى انتباه المخاطب فى الحديث أو يطرح بذاءة لا يقدر عليها اللسان، فتجد أن النية المصاحبة للفعل فى سياق معين هى الفيصل فى الحكم على الأمور.

القراءة المتأنية فى الشرائع تقودك إلى اليقين بأن الإنسان مُكرَّم وعزيز لدى خالقه، ولم يجعل الله قيمًا نسبية بين أعضاء البدن تتفاوت قيمتها من عضو لآخر، فليست الأصابع الأربعة التى تتحلى بخواتم الذهب والمجوهرات أعز من خامسها، وهو الإبهام الذى لولاه ما أدى إصبع منها وظيفة القبضة والإحكام، فكل منها يؤتى وظيفته مصاحبًا لهذا القصير الذى اتخذ سكنًا عموديًا عليها الأربعة وكأنه يطل عليها من علٍ. 

جاءت قيمة الوجه فى الإنسان مرادفًا لمعنى التكريم وليس الكرامة، فالتكريم منحة شرفية من الله لأننا سنلقاه بوجوهنا، أما الكرامة فهى مرادف للعزة، وهى دلالة تخص البدن كله، فليس هناك عضو بلا عِزة، فالقفا له محاذيره لدى الإهانة فى الموروث البشرى، وكذلك الخدان وهما موضع تلقى المهانة الأكبر فى الصراعات الجسدية.

إذن دعونا نستند إلى معيار آخر نفاضل به بين قيمة الأعضاء ومن خلاله نصدر أحكامًا ما إذا كانت اليد أهم من القدم؟ وما إذا كانت حاسة الشم أهم من التذوق أو العكس؟، وهل الكبد أغلى من الكلى؟

لا يعترف الجسم البشرى بأهمية عضو على آخر، فكلها تحظى بذات الأهمية، ولكنه يرصد قيمًا نسبية لكل عضو وفق وظيفته، وهى فلسفة غريبة لم يسبر العلم كامل أغوارها بعد.

من الطريف أن الأعضاء الحيوية مثل القلب والكلى والكبد تأخذ فى حسبانها «هدم المعبد» على مَن فيه إن هى تأذت لحد التوقف، فالكلى ترتبط بالكبد فى علاقة شراكة غير مفهومة، بحيث إن إهانة أحدهما بمرض يغضب الآخر فيتقاعدان سويًا عن الخدمة، ويعرف هذا الرباط العجيب فى الطب بـ«محور التأذى الكلوى- الكبدى»، وكذلك العين إن هى أصيبت بمرض أو تهتك وتأذت تتعاطف معها العين الأخرى السليمة بلا سابقة مرض وتدمر نفسها ذاتيًا، ويعرف الطب هذا الظاهرة بتلف العين التفاعلى «Sympathetic Ophthalmia»، ويسرى نفس التعاطف بين الخصيتين، فإن تأذت إحداهما تنفعل الأخرى بعد أشهر وتتأذى ذاتيًا وتتوقفان عن الخدمة فلا هرمونات ذكورية ولا خلايا منوية.

يُعزى هذا التفاعل الغريب بين العينين والخصيتين إلى عدم تعرف جهاز المناعة على نسيج هذه الأعضاء، وتظل شفرة نسيج الخصية وسائل العين ضيفين غير معترف بهما ضمن أنسجة الجسم ومعزلين بغلاف يمنع تسريبهما للجسم إلا فى حالة التأذى بالإصابة وعندها تتسلل بعض الخلايا ويتربص بها الجهاز المناعى ويصدر ضدها أجسامًا مضادة تحارب العين السليمة أو الخصية السليمة لاحقًا.

يتبقى فى حديثنا مفهوم «القيمة» الذى يرصده الجسم لكل عضو من الأعضاء كما تحدثنا آنفًا، فهناك وظائف نظن أنها تنتمى لفصيل الرفاهية، ونظن بالخطأ أن فقدها ليس بالأمر الجسيم مثل حاسة الشم مقارنة بحاسة البصر مثلًا، وهو حساب غير صائب، لأن حاسة الشم لا تخدم إدراك الروائح فحسب، بل تشارك بنصف إدراك لذة النكهة، والنكهة هى خليط التذوق مع الشم، ويتساوى لدى فاقد حاسة الشم طعم ثمرة الموز مع قشرتها، وحتى مع القدمين اللتين نُسبت لهما الإهانة وارتديتا الحذاء، لولا سلامتهما لفقدت معنى التوازن فى الحياة.